جوني منيّر – الجمهورية
بين إعلانه عزمه على سحب قواته من سوريا وتهديده بعمل عسكري ضد الجيش السوري تناقضٌ واضح في مواقف الرئيس الأميركي دونالد ترامب.
هي ليست المرة الاولى التي يعلن فيها الشيء ونقيضه، وهي لن تكون المرة الاولى التي سيعمد الى تدوير زوايا مواقفه لاحقاً عندما يحقق أهدافه الضمنية لا المعلنة.
قبل ذلك تحدّث عن عملية عسكرية على كوريا الشمالية وتصادم مع أركان إدارته حول موقفه هذا وفي طليعتهم وزير الخارجية الأسبق ريكس تيلرسون الذي «طرده» لاحقاً. وهو اليوم يجهّز ملفاته لإنجاز الصفقة الكبرى عند لقائه بالزعيم الكوري الشمالي معتمداً طريق التفاوض تماماً كما نصحه منذ البداية تيلرسون.
وليس الأمر بعيداً من ذلك في سوريا مع فارق أنّ ترامب في حاجة الى إبراز عضلاته قبل حدثين مهمين: الأول دنوّ موعد التجديد للاتّفاق النووي مع إيران والثاني لقاؤه المنتظر مع زعيم كوريا الشمالية.
وفي انتظار ذلك يجد ترامب أنّ من المفيد توجيه بعض الضربات المحدودة والتي تُحدث رعداً إعلامياً، ولكنها لا تعدل، ولو قيد أنملة، في التوازنات الموجودة على الارض.
ضرباتٌ محدودة يستفيد منها داخلياً وتعطيه دفعاً معنوياً في وجه إيران وقبل قراره حول الملف النووي. وكذلك تجعله يذهب الى لقاء الزعيم الكوري الشمالي وهو يحظى بشيءٍ من القوة لانتزاع أقصى ما يمكن، أو هكذا يظن.
وهذه الضربات يمكن استثمارها على مستوى أقل مع إسرائيل مثلاً من خلال منحها دوراً يعيد لها موقعاً خسرته بعد إسقاط طائرتها الحربية، ويفتح لها أبواب الخليج أكثر فأكثر. ومع السعودية حيث يطمح ترامب الى انتزاع أرصدة مالية اضافية تغطّي بناء قاعدتين عسكريتين أميركيتين شمال سوريا، إضافة الى كلفة تشغيلهما والأهم ضربات يصل رعدها الى القاعة التي جمعت روسيا وتركيا وإيران لتذكّرَهم بأنّ من التهوّر في مكان تغييب «سيد اللعبة».
ترامب يبني سياسته الخارجية وفق منطق رجال الأعمال ويختصر أهداف بلاده «البيزنس» وهو ما يرفع من درجة قلق طاقم الخبراء الاستراتيجيين الذين يمقتون المشاريع القصيرة الأجل ويميلون الى الهندسات الاستراتيجية والمصالح السياسية والخرائط الجيوسياسية.
الجيش الأميركي، كما دوائر الاستخبارات وطاقم وزارة الخارجية، يعارضون الانسحابَ العسكري من سوريا وفي الوقت نفسه يتّفق هؤلاء على عدم تدمير الاتّفاق النووي لأنه بات مصلحة أميركية ولو أنهم يؤيّدون وضعَ ضوابط جديدة له تسدّ بعض الثغرات، ولو احتاج الأمر الى مزيد من العقوبات.
وأكثر ما يخشاه هؤلاء أن يحدث أيّ انزلاق غير محسوب كمثل ضرب الاتّفاق الى تعزيز نفوذ المتشدّدين داخل إيران والقضاء على المعتدلين أو التيار الإصلاحي، وبالتالي دفع إيران الى انتهاج سياسة هجومية قادرة على إيذاء المصالح الأميركية في الشرق الاوسط، خصوصاً بعد مساحة النفوذ الجديدة التي كسبتها وفي ظلّ التحدّيات الاقليمية التي تواجهها واشنطن بدءاً من روسيا ومروراً بتركيا ووصولاً الى الساحة الفلسطينية. والقلق الذي ينتاب واشنطن ويتصاعد شيئاً فشيئاً هو انزلاق تركيا أكثر فأكثر في اتّجاه روسيا.
فأهمية تركيا أولاً، أنها عملاق جغرافي واقتصادي يفصل أوروبا عن الشرق الأوسط وبدلاً من أن تشكّل تركيا حاجزاً امام تمدّد كل انواع «الأمراض» الأمنية الى الداخل الأوروبي ومنه الى الداخل الأميركي، فيمكن أن تصبح منطقة معادية، أو في أقلّ تقدير، منطقة غير معنيّة بأمن دول حلف شمال الأطلسي.
وثانياً، تشكل تركيا حاجزاً أمام تمدّد النفوذ الروسي الى قلب الشرق الأوسط وهي أصلاً لعبت هذا الدور بجدارة أيام الاتّحاد السوفياتي، حيث جعلت الولايات المتحدة الأميركية من الجيش التركي جيشاً توأماً لها وصل عديدُه الى المليون رجل وتمّ توفير كل المتطلبات له ليمسك بالسلطة بيد من حديد. بالتاكيد هذه المرحلة انتهت ولكن تبقى تركيا قادرةً على لعب دور الحاجز الذي يحدّ من الطموح الروسي كما تأمل واشنطن.
وثالثاً، تركيا قادرة على تحقيق التوازن مع إيران في لعبة التناقضات الشرق أوسطية الجديدة. فإيران بنظامها الديني وعلى عكس الاعتقادات والتحليلات لا يتناقض دورُها مع لعبة التوازنات التي تريدها واشنطن في الشرق الأوسط، ولكن بشرط أن تتوازن مع القوة الإيرانية قوى أُخرى. طبعاً تحاول إسرائيل أن تلعب هذا الدور ولكنّ واشنطن تدرك أنّ النزاع الإيراني – الإسرائيلي المفتوح في نهاية المطاف هو في مصلحة إيران، ويعزّز دعايتها داخل فلسطين وحتى في قلب الساحة العربية.
أما تركيا فقادرة على لعب جزء أساسي من وظيفة التوازن مع إيران من دون «آثار جانبية».
كذلك فإنّ واشنطن غير قادرة على تزويد ألفي جندي أميركي موجودين في سوريا من دون الممرَّين البري والجوي التركيَين. اضف الى ذلك أنّ تركيا تحتل المرتبة 17 بين اكبر اقتصادات العالم على رغم استمرار تدهور الليرة التركية أمام الدولار.
لكنّ واشنطن تخشى ايضاً خسارة الأكراد الذين شكّلوا وما زالوا قوة مشاة أميركية يستفيد منها الجيش الأميركي بمقدار كامل وكبير. ولذلك أثارت القمّة الروسية – التركية – الإيرانية الدوائر الأميركية وعبّر ترامب عن ذلك، ولكن من خلال الساحة السورية وما عرف بأزمة الكيماوي.
وتراهن واشنطن على انفراط عقد التقاطع التركي ـ الروسي ـ الإيراني مع سعي تركيا الى التمدّد داخل سوريا حيث تسعى الى تأسيس منطقة نفوذ صافية. في هذه الحال يعتقد خبراء أميركيون انّ أنقرة ستفقد حماسة العمل الى جانب موسكو وطهران، خصوصاً أنّ الجميع في حاجة الى تعاون تركيا في ادلب حيث لا تزال البنية التحتية للمسلّحين سليمة وقائمة. ولاحظ هؤلاء الخبراء أنّ تركيا لم تستخدم حقّ النقض ضد قرار طرد سبعة موطفين من البعثة الروسية الدائمة لدى حلف شمال الاطلسي في بروكسل.
وواشنطن ايضاً تحاكي إيران من خلال سوريا ومعها إسرائيل حول الساحة الفلسطينية. فصحيح أنّ المراقبين لاحظوا تراجعاً في أعداد المشاركين في تظاهرات غزة في الجمعة الثانية لكنهم يُجمعون على أنّ حركة «حماس» حقّقت نقاطاً ثمينة وهي قادرة على تحقيق مزيد وإحراج إسرائيل فيما لو استمرّت أكثر.
اضف الى ذلك، الوضع الصحّي للرئيس الفلسطيني محمود عباس في ظلّ فتح ملف خلافته بين محمود العلول، وهو نائب رئيس حركة «فتح» وجبريل الرجوب وهو الأمين العام للجنة المركزية لحركة «فتح»، اضافة الى مروان البرغوتي ومحمد دحلان وهذا الأخير تدعمه مصر ودولة الإمارات العربية المتحدة، ولكنه غير مرغوب في الضفة.
لأجل كل ذلك تريد واشنطن توجيه مزيد من الرسائل الحربية، ولكنها رسائل محدودة النتائج والأصح إنّ تاريخ صلاحيتها ينتهي مع طيّ صفحة الملف النووي والمصافحة المنتظرة بين الرئيس الاميركي والزعيم الكوري الشمالي حيث سيعود بعدها ترامب الى بلاده للعمل على توظيف اتّفاقه «التاريخي» في الحملات الانتخابية للحزب الجمهوري في الانتخابات النصفيّة.
والضربات المقترحة ستكون مشابهة للضربة التي نفّذتها إسرائيل من الأجواء اللبنانية ضد مطار «تي. فور» والتي سجّلت فيها الملاحظات الآتية:
ـ مطار «تي فور» هو بمثابة موقع يعمل فيه خبراء إيرانيون لتسير طائرات من دون طيار. وتروي المعلومات الواردة الى واشنطن أنّ الغارة أدّت الى مقتل مسؤول القاعدة الجوية وهو ضابط إيراني رفيع.
ـ إنّ الطريق الذي سلكته الطائرتان الإسرائيليتان يهدف اساساً الى عدم الاصطدام بروسيا وذلك مراعاةً للاتفاق الذي حصل بين القيادتين الإسرائيلية والروسية بحيث تمّ تقاسم أجواء المنطقة بحيث تكون الاجواء السورية وكذلك من الشمال اللبناني حتى مدينة جبيل تحت السيطرة الروسية، فيما بقيت لإسرائيل حرّية الحركة من أجوائها حتى جبيل من دون التنسيق مع روسيا.
ومع اعتماد الطائرتين الإسرائيليتين المسار الجوّي من كسروان وإطلاق النار من البقاع فهذا لا يناقض اتّفاقها مع روسيا، خصوصاً أنها لم تنسّق معها مسبقاً، ما يعني أنّ الضربات المستقبلية إذا حصلت ستتجنّب إثارة روسيا.