ثمّة إشارات مريبة تزيد من غموض الاستحقاق النيابي المنتظر وضبابيّته. فحتى الآن لا تبدو صورة التحالفات واضحة باستثناء التفاهم الذي أجراه الثنائي الشيعي. عدا ذلك تبدو الصورة ضبابية، والأهم البرودة التي يتعاطى من خلالها زعماء القوى السياسية الأساسية مع اللوحة الانتخابية.
في الانتخابات السابقة ووفق قانون الستين، كانت الصورة التحالفية تبدأ بالتبلور بدءاً من مطلع السنة، علماً أنّ إعلان اللوائح كان قابلاً للحصول قبل أيام من فتح صناديق الاقتراع.
أما اليوم فإنّ الصورة لا تبدو واضحة بتاتاً، على رغم إلزام القانون الجديد بإعلان اللوائح المقفلة قبل أربعين يوماً من موعد فتح الصناديق، أي قبل أواخر آذار المقبل، ما يعني أنّ المهلة الفعلية المتبقّية هي نحو شهرين لا أكثر.
صحيح أنّ رئيس الجمهورية العماد ميشال عون وقّع مرسوم دعوة الهيئات الناخبة، لكنّ رئيس المجلس النيابي نبيه بري لا يتوانى عند كل مناسبة من التنبيه من وجود جهات خارجية تريد تأجيل الانتخابات، مرفقاً تنبيهه بالتأكيد أنّ هذه الانتخابات ستجرى في موعدها.
من هنا، هنالك مَن يربط بين البرودة الحاصلة حيال حسم خريطة التحالفات الانتخابية وبين وجود مناخ جدّي في الكواليس يعمل لتأجيل حصول الانتخابات. والواضح أنّ هذا المناخ يحظى برعاية خارجية.
ووفق الصورة الأشمل، من الواضح أنّ أيار المقبل سيشهد إضافة الى الانتخابات النيابية اللبنانية، إنتخابات في العراق وتثبيت لركائز التسوية في سوريا. ما يعني في الترجمة السياسية أنّ أيار سيؤكّد ترجمة الانتصار العسكري الإيراني في العراق سياسياً من خلال الإنتخابات.
وفي سوريا، سعي إيراني الى تثبيت نقاط الربح من خلال التسوية. وقد بات معلوماً أنّ الرئيس بشار الأسد باقٍ على رأس السلطة، في وقت بدأت العواصم الغربية الكبرى في مشوارها لاستعادة علاقاتها مع دمشق. وخلال الشهر الفائت، زارت شخصية أمنيّة أميركية رفيعة سوريا عن طريق لبنان، كذلك تستعدّ باريس لفتح قنوات التواصل المباشر مع السلطات السورية بعد قرار اتّخذته الإدارة الفرنسية ورئاسة الجمهورية معاً.
ربما من هذه الزاوية تنظر السعودية بقلق الى الخسارة الكاملة لمواقعها من العراق الى لبنان. وهي خسارة ستعني خللاً كبيراً في موازين القوى لمصلحة إيران في الخط الذي أطلقت عليه تسمية «الهلال الشيعي». وهو ما يؤسّس لخروج طويل الأمد من هذه المنطقة الحيوية.
وفي لبنان انتخابات نيابية مقرّرة في أيار المقبل وفق قانون يعطي الغلبة النيابية لـ»حزب الله» وحلفائه، من دون الحاجة الى كتلة النائب وليد جنبلاط. ولم يعد سرّاً أنّ أحد اسباب التوتر السعودي مع الرئيس سعد الحريري هو قبوله بقانون الانتخاب هذا.
وانطلاقاً من هذه القراءة، تبدو السعودية تميل في اتّجاه حلّ من اثنين: إمّا العودة عن القانون الحالي لمصلحة القانون القديم، أو ربما قانون جديد لا يسمح للفريق الشيعي بالسيطرة على مجلس النواب، أو تأجيل الانتخابات بعض الوقت ريثما تسمح الظروف بتبدّل المعطيات أو بإنهاء حرب اليمن التي ترهق كاهل الرياض ما يسمح لها بالتفرّغ للملف اللبناني.
ووفق مصادر ديبلوماسية، فإنّ فكرة تأجيل الانتخابات طُرِحت في قنوات ديبلوماسية «خاصة» على عواصم غربية كبرى، لكنّ جسّ النبض الأوّلي أظهَر معارضة أميركية لهذا التأجيل. لكنّ هذا الجواب الأوّلي لم يُحبط الساعين الى التأجيل مع مزيد من الشرح حول المخاطر السياسية الناتجة عن حصول الانتخابات وفق المعطيات الحالية.
في المقابل حصل في الداخل اللبناني بعض «التشويش» حول القانون الانتخابي الحالي يسمح في حال تأمّن القرار الخارجي أن يشكّل مدخلاً لتطيير الانتخابات، إضافة الى حجّة بات يجري تردادها بأن يكون موعد انتخابات رئاسة الجمهورية المقبلة في تشرين 2022 من ضمن الولاية الدستورية للمجلس النيابي المقبل، والمحدَّدة بأربع سنوات.
والحريري الذي سمع نصائح خارجية بعدم مفاقمة الخلاف الحاصل بينه وبين السعودية وبالعمل على إيجاد واقع تفاهمي جديد معها، قد لا يجد في تأخير الانتخابات ما يتعارض مع مصالحه:
أولاً: هو سيبقى رئيساً للحكومة مع وزارات خدماتية.
ثانياً: سيُخفّف من التشنّج الحاصل بينه وبين الرياض.
ثالثاً: سيعطيه كسباً للوقت لتأمين التمويل المالي المطلوب يسمح له بخوض انتخابات ناجحة.
حتى الآن لا تزال الاتصالات الخارجية قائمة بسرّية مطلقة، ولو أنّ الرد الأميركي الأوّلي لم يكن مشجّعاً. فالسعودية تتحدث عن المرحلة التي ستلي الانتخابات والتي ستعني ليس فقط سيطرة «حزب الله» والفريق الشيعي على المجلس النيابي أو البنية التحتية للنظام السياسي اللبناني، بل أيضاً على انعكاس ذلك لاحقاً على تشكيل الحكومات وانتخاب رؤساء الجمهوريات، وضمناً تفريغ «اتفاق الطائف» من مضمونه السياسي.
وفي هذا الإطار، لفت الكلام الذي أطلقه الأمين العام لـ»حزب الله» السيد حسن نصرالله خلال إطلالته الأخيرة. تحدّث عن حصول الانتخابات النيابية في موعدها ومن دون أيّ تعديلات على القانون، والأهم تأكيده بما يُشبه الالتزام بأنّ البلد لا يُدار إلّا بالتوافق بعيداً من أحجام الكتل النيابية، أي إنه أكّد أنّ التعاطي سيستمرّ في القرارات الكبرى وفق مفهوم الشراكة لا الغالبية النيابية.
وفي ذلك صورة معكوسة لانتخابات العام 2009، فيومها أمّن «اتّفاق الدوحة» وما تلاه من مفاوضات جانبية وسرّية، ترتيب صورة الحكم لما بعد الانتخابات النيابية. فالخاسر في الانتخابات يضمن مشاركته في الحكومة من خلال «الثلث المعطّل».
اليوم هنالك غلبة نيابية تلوح في الأفق لمصلحة «حزب الله» وحلفائه بدءاً من «التيار الوطني الحر»، وفي المقابل هنالك التزام علني عبّر عنه السيد نصرالله بعدم تجاوز الشراكة في السلطة التنفيذية.
في الوقت نفسه باشرت السعودية تحضير الخطة «باء» في حال عجزت عن تأجيل الاستحقاق النيابي. لذلك ارتضت بتسجيل نقطة عليها عندما رضخت لشرط وزير الخارجية اللبناني جبران باسيل بالموافقة على السفير اللبناني المعتمَد لديها في مقابل قبول أوراق اعتماد السفير السعودي في لبنان. ذلك أنها أوكلت الى السفير مهمّة مواكبة الاستحقاق النيابي بأقلّ خسائر ممكنة.
ووفق المعلومات، فإنّ السفيرَ السعودي والذي يلتقي العديد من القوى والشخصيات اللبنانية المعنيّة بالاستحقاق النيابي، من المفترض أن ينهي برنامج لقاءاته أواخر هذا الشهر ليباشر في وضع تصوّره، ومن المفترض أيضاً أن يلتقي الحريري في جلسة طويلة أوائل الشهر المقبل وعلى أساس التفاهم حول ضرورة أن تشمل تحالفات تيار «المستقبل» جميع القوى المسيحية المصنّفة خارج نطاق «التيار الوطني الحر»، ذلك أنّ هنالك إقتناعاً بصعوبة فكّ الارتباط بين الحريري وباسيل.
بمعنى أنّ المطلوب تقليص حصّة «التيار الوطني الحر» على لوائح «المستقبل» الى الحدّ الأدنى الممكن بهدف تقليص مساحة «حزب الله» السياسية داخل المجلس النيابي.
وفي حال التفاهم سيكون هنالك دعم مالي لـ»المستقبل» في معركته النيابية، وفي حال العكس، فإنّ السعودية ستدعم المجموعات التي ستواجه «حزب الله» والقوى الحليفة له.
وعندها قد تحصل زيارة المسؤول عن الملف اللبناني وهو المستشار في الديوان الملكي السعودي نزار العلولا للبنان من أجل رعاية هذه القوى، ولا سيما منها تلك المنتمية الى الفريق السنّي.
ووفق هذه الصورة المتشابكة والمتداخلة يسود الغموض خريطة التحالفات الانتخابية، والأهم حال البرودة لدى رؤساء ومسؤولي الكتل والقوى النيابية والحزبية في انتظار جلاء الصورة.
قد لا يكون أمام هؤلاء كثير من الوقت وهو ما يجعل النصف الأول من شباط ضاغطاً وغيرَ واضح المعالم. وفي المقابل، فإنّ الفريق الشيعي الذي أقلع بماكينته الانتخابية برئاسة نائب الأمين العام لـ»حزب الله» الشيخ نعيم قاسم باشر لقاءاته وترتيب تصوّره. وهو ربما يستغلّ هذه المرحلة الضبابية والغامضة ليوظّفَها في إطار ترتيب الرؤيا بين القوى المتحالفة معه.
ذلك أنّ «سقوف» الجميع تبدو مرتفعة، وبالتالي استعمال هذه المرحلة للّعب على الوقت وجعل هذه القوى تقبل بحصص معقولة ووفق أحجامها الحقيقية لكي لا تتفجّر التحالفات لاحقاً.
الجمهورية - جوني منير