جوني منيّر – الجمهورية
إستمر الرئيس التركي رجب طيب اردوغان متدرّجاً صعوداً في عرض الحقائق التي يمتلكها حول جريمة اغتيال جمال خاشقجي. وعلى رغم التمهيد الواسع لخطابه الثلثاء الماضي بأنه سيكشف كل الحقيقة والتفاصيل الموجودة لديه، إلّا أنه فاجأ الجميع بطرح الاسئلة أكثر منه عرض الوقائع، تاركاً هامشاً واسعاً للنقاش وللسياسة.
وقبل خطاب اردوغان بساعات، وصلت مديرة جهاز الاستخبارات الاميركية (CIA) جينا ماسبل الى تركيا في مهمة خاصة ومستعجلة بناء على طلب الرئيس الاميركي دونالد ترامب. المهمة المعلنة تركزت حول طلبها الاستماع الى التسجيلات الصوتية والأدلة التي تمتلكها تركيا والمتعلقة بجريمة قتل خاشقجي، والمهمة غير المعلنة تهدف الى إقناع اردوغان بإرجاء إعلان ما يملكه من حقائق حول هذا الملف.
وبَدا انّ الرئيس التركي استجاب نصف استجابة، فأبقى على ما يملكه من أدلة جانباً، ولكنه طرح أسئلة محددة وحاسمة لا يبدو سهلاً تقديم أجوبة عليها، ولكنه وسّع دائرة اتهاماته داعياً الى كشف الغطاء عن شركاء إقليميين اعتبرهم متورطين في عملية القتل، وهو بذلك أعاد الى الاذهان مسار العودة للطائرتين اللتين أقلّتا الفريق المُتهم بعملية الاغتيال، واللتين توقفت إحداهما في مصر والثانية في دولة الامارات العربية المتحدة.
وعبر هذه النقطة يفتح اردوغان باب التفاوض السياسي، هو الذي تزامَن خطابه مع بدء أعمال المنتدى الاستثماري في السعودية.
فالرئيس التركي يدرك جيداً انّ الملف يمنحه نقاطاً ثمينة، وأنّ الحل والربط في يده.
وحتى الرئيس الاميركي، الذي لم يكن مسروراً بخطاب اردوغان واعتبره قاسياً في حق السعودية، هو ايضاً يعيش أجواء قلق خشية التأثيرات السلبية لملف خاشقجي على حملاته الانتخابية.
وبعد أن كان يعتبر انّ علاقته الخاصة هو وصهره جاريد كوشنير بالقيادة السعودية ورقة قوة في سياسته الخارجية وأحد الاسباب المباشرة للفورة التي يشهدها الاقتصاد الاميركي، باتت مواقف ترامب تتخبّط وتتناقض ما بين حماية الحكم في السعودية وعدم ترك مساحات لمعارضيه لاستثمارها ضده شعبيّاً. فبعد أن قال انّ الرواية السعودية جديرة بالثقة، عاد وقال إنه من الواضح وجود “كذب وخداع”.
وستبقى قضية خاشقجي في واجهة الاحداث حتى فتح صناديق الاقتراع الاميركية، وبعدها ستسلك مساراً أكثر واقعية، أو بمعنى أوضح تسوية سياسية كاملة.
والواضح انّ الضغوط التي يمارسها معارضو ترامب، إضافة الى دول اقليمية معادية لِوَلي العهد السعودي محمد بن سلمان، لن تغيّر في الموقف الاميركي. بمعنى أن لا بديل لواشنطن عن الدور “الشَرس” لمحمد بن سلمان، ولكن مع ضرورة استغلال ما حدث من اجل تطعيم أسلوبه “الشرس” بزوايا ديبلوماسية، وهذا واضح من خلال توافق ترامب والمؤسسات الامنية الاميركية حول السعودية حليفاً مهماً جداً.
لكن من السذاجة بمكان الاعتقاد أنّ الامور ستسلك بلا فواتير سياسية، لا بل هنالك همس في الأروقة الديبلوماسية بأنّ هذه الفواتير ستكون مرتفعة الكلفة.
وهنالك من يعتقد انّ مجموعة أخرى سيجري إعفاؤها من مهماتها، وهنا لا بد من التمعّن جيداً بهذه الاسماء وبتلك التي ستحلّ مكانها.
في الدفعة الاولى كان لافتاً إسم أحمد العسيري، نائب رئيس الاستخبارات العامة، والذي أعفي من مهماته. فالعسيري أحد رموز الحرب في اليمن، فيما دأبَت واشنطن، وتحديداً الكونغرس الاميركي، على ضرورة وقف الحرب والشروع في تسوية سياسية.
وكان لافتاً أن تنشر صحيفة “نيويورك تايمز” منذ أيام تحقيقاً أجراه فريقها الذي زار جبهات الحُدَيدة في اليمن، ناقلاً مشاهدات سلبية عن الفوضى بين المقاتلين وانتشار “القات” حتى داخل المستشفيات المحلية. وهو ما فهم بأنه تركيز على المخاطر الآخذة في التصاعد جرّاء حرب اليمن.
كذلك، لفت كلام الأمين العام لـ”حزب الله” السيّد حسن نصرالله الأخير الذي “نصح” فيه السعودية بإنهاء ملف اليمن. وبالتأكيد، فإنّ كلام نصرالله لم يأت من فراغ، وهو يستند الى شيء ما.
وليس اليمن هو الملف الوحيد الذي قد يخضع للبازار الاميركي، فهنالك أبواب التمويل، وهو ما كان ترامب قد كرّره دائماً من انّ على السعودية أن تدفع لقاء حمايتها. وهنالك أيضاً ملف “صفقة القرن”.
ونقلت القناة العاشرة الاسرائيلية قول ترامب لنظيره الفرنسي أنه نفّذ إجراءات قاسية في حق السلطة الفلسطينية، كمثل إغلاق مقر البعثة الفلسطينية في واشنطن وتقليص مئات الملايين من الدولارات من المساعدات، وذلك ردّاً على قطع العلاقات مع إدارته بعد اعترافها بالقدس عاصمة لإسرائيل.
وتابعت القناة الاسرائيلية في تقريرها انّ إسرائيل “فازت بجوائز ومكاسب كثيرة وكبيرة، ولكنه يتعيّن في نهاية الأمر أن تدفع شيئاً ما”.
وجاء ذلك ردّاً على أجواء إسرائيلية مفادها انّ نتنياهو سيطلب من واشنطن تأجيل إعلان الخطة الى ما بعد الانتخابات الاسرائيلية عام 2019، لكي لا يُزايد عليه اليمين خلال الحملات الانتخابية. بينما يريد ترامب، وفي حال خسارة الجمهوريين الانتخابات النصفية، الضغط على الحكومة الاسرائيلية للتوَصّل الى اتفاق، آملاً في تحقيق إنجاز كبير في السياسة الخارجية لاستثماره قبل الانتخابات الرئاسية عام 2020.
ترامب قال لماكرنن، وفق التقرير التلفزيوني الاسرائيلي، انه بدأ يقترب من الاعتقاد أنّ نتنياهو لا يريد أي تسوية، بل البقاء في المربّع الحالي.
وهنا سيحتاج ترامب الى مؤازرة سعودية قصوى على المستوى الفلسطيني.
وليس ترامب هو وحده من سيطلب، بل أيضاً تركيا التي تطمح في ظل اردوغان الى أن تصبح زعيمة العالم الاسلامي، وهو الدور الذي تتولاه السعودية منذ زمن بعيد.
قد يكون من السذاجة الاعتقاد انّ تركيا ستطلب ذلك بوضوح، لكنها ستباشر بهذا المسار انطلاقاً من سوريا، حيث تمثّل مفاوضات إنهاء الحرب فرصة ذهبية لذلك.
تركيا تستعد لتسيير دوريات عسكرية لها ضمن المنطقة المنزوعة السلاح الثقيل في ادلب، والتي أقرّت في سوتشي. وهنالك قمة رباعية ستُعقد في 27 الجاري بين تركيا وروسيا وفرنسا والمانيا تتناول الملف السوري وإعادة الاعمار، وهي خطوة قد تدفع تركيا الى احتكار تمثيل المعارضة.
ففي موازاة معركة إدلب، هنالك نزاع حول نفوذ الدول ومصالحها في سوريا، حيث تتولى موسكو وواشنطن تحديد مستقبل سوريا وحجم إيران ودورها فيه. كذلك تسعى واشنطن لاحتواء إيران تمهيداً لتحقيق تسوية بين سوريا واسرائيل حول هضبة الجولان، ولكن بعد طرح “صفقة القرن”.
وتركيا تريد من الأميركيين إنهاء الملف الكردي شمال سوريا لمصلتحها. ومن الغباء الرهان على انّ لبنان سيبقى بمنأى عن كل هذه التطورات. في الآونة الأخيرة غَرّد النائب عماد واكيم نيابة عن حزب “القوات اللبنانية” مُهاجماً اردوغان: “يحاضِر بالعفّة”.
واضح انّ الرَد “القواتي” كان مقصوداً عبر أحد نوابه، لا عبر بيان رسمي بإبراز الدعم ولكن بحَرج أقل.
عملياً، من المنطقي الاستنتاج انّ قوى لبنانية أساسية، ولاسيما منها “حزب الله”، قد تفضّل التريّث قليلاً في عملية تأليف الحكومة ريثما تنضج المسارات الاقليمية، خصوصاً انّ عمر هذه الحكومة سيطول. ما يَستوجِب ترتيب توازناتها الداخلية وفق الصورة الاقليمية المقبلة، لا الصورة الاقليمية الجاري تمزيقها الآن.