صحيفة الأخبار
طوال الأسابيع الماضية، رافق الصمت الرسمي التسريبات الإعلامية التركية بشأن مقتل جمال خاشقجي. صمت لا يمكن القول إن خطاب رجب طيب أردوغان كَسَره، بقدر ما أنه أكّد دلالاته المتحورة حول سعي أنقرة إلى الخروج من الأزمة بأكبر قدر من المكاسب. هذا السعي يبدو واضحاً أن من شأنه مضاعفة حرج إدارة دونالد ترامب، الذي وصف موقف الرئيس التركي بـ«القاسي جداً»، قائلاً في الوقت نفسه إن الرواية السعودية «أسوأ تستّر على الإطلاق». ما يمكن فهمه من تعليقات ترامب أن الرجل يحرص على إيجاد مخرج «منطقي» لحليفته، لكنه يستصعب دفع الثمن المطلوب تركياً.
لم يخرج خطاب الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، حول مقتل الصحافي السعودي جمال خاشقجي، عن السقف الذي من شأنه إبقاء خطوط «التفاوض» مفتوحة. صحيح أن أردوغان أحاط الرواية السعودية بالكثير من الشكوك، إلا أن ذلك ظلّ في إطار السعي لتصعيد الضغوط على الرياض، الذي يستهدف في نهاية المطاف مضاعفة إحراج واشنطن ودفعها إلى مساومة أنقرة على الثمن المطلوب لإنقاذ المملكة. بدا زعيم حزب «العدالة والتنمية» مطمئناً إلى أن الوقت يلعب لمصلحته على المستويات كافة، فيما هو ليس كذلك بالنسبة إلى الولايات المتحدة والسعودية، التي وجدت الحاجة ملحّة إلى تقديم أوراق اعتماد جديدة إلى إدارة دونالد ترامب، بهدف التسريع في إيجاد مخرج ينهي حالة «الاستنزاف» القائمة.
منذ اليوم الأول لاختفاء خاشقجي داخل قنصلية بلاده في إسطنبول، ظهرت أنقرة وكأنها تلعب على حبلين: من جهة ضخّت في القنوات الإعلامية كلّ ما من شأنه تعرية السعودية واستثارة السخط العالمي عليها، ومن جهة أخرى حرصت على عدم الإدلاء بمعلومة رسمية أو توجيه اتهام مباشر من شأنهما إغلاق أبواب «اللفلفة». هذا ما تجلّى مجدداً في الكلمة التي ألقاها أردوغان، أمس، أمام البرلمان. لم يصدّق الرئيس التركي على الرواية السعودية التي أسبغت طابعاً عرَضياً على واقعة القتل، بل أشار إلى أن «لدينا دلائل قوية على أن العملية كان مُخطّطاً لها». كذلك، شدّد على ضرورة «الكشف عن كافة المتورطين من أسفل السلم إلى أعلاه»، ما أوحى بأن أردوغان يلمّح إلى ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، خصوصاً أنه امتنع في خطابه عن ذكر الأخير، حاصِراً حسن ظنّه في «صدقية الملك سلمان». يضاف إلى ما تقدم إلحاح الرجل على التساؤل عن مكان جثة خاشقجي، واضعاً السعودية أمام تحدّي الإجابة عن إشكالية كانت قد حاولت «لفلفتها» بالقول إن «الجثة سُلّمت لمتعهّد دفن محلّي». أما النقطة الأخيرة، فهي مطالبة أردوغان بمحاكمة المتورّطين السعوديين في الجريمة في إسطنبول، وهو مقترح تدرك أنقرة أن الرياض لن تقبل به البتّة، ما يجعل من طرحه تلويحاً بالدفع نحو تدويل التحقيق، علماً أن الأمم المتحدة سارعت ـــ عقب الخطاب ـــ إلى القول إنه في حال طلب تركيا إجراء تحقيق دولي، فسوف «ندرسه بعناية ونتخذ القرار المناسب».
لكن في المقابل، حمل خطاب أردوغان إشارات تغدو معها النقاط المُتقدمة قابلة للحلحلة لحظة نضج «التسوية»، التي يبدو أن الرئيس التركي يتعمّد تأخيرها بهدف ضمان الخروج من الأزمة بأكبر قدر من المكاسب. لم يقدّم الرجل، مثلاً، معلومات ثمينة من شأنها سدّ الطريق نهائياً على الرواية الرسمية السعودية، بل وافق الأخيرة في ما يتصل بعدد الأشخاص الذين أُوقِفوا على خلفية الواقعة، وهم 18 سعودياً. في ما يتّصل بِمَن أمر، طرح تساؤلات عامة وفضفاضة يمكن إجاباتها أن تتّسع أو تضيق. وفي ما يتعلّق بالجثة، رسم علامات استفهام عريضة لا تحرم السعودية فرصة التهرّب من حديث المنشار والتقطيع وتفريق الأشلاء أيادي سبأ. وعلى المنوال نفسه، تسير بقية مفاصل الخطاب، الذي تركّز في جزء كبير منه على التفاصيل المرتبطة بتسلسل الأحداث، من دون أي إجابة شافية على الإشكاليات الملحّة. من هنا، يمكن النظر إلى شهادة أردوغان على أنها محاولة لاستدراج عروض أفضل ممّا قد تكون أنقرة قد تلقّته إلى الآن. ورغم أن تركيا تتمسّك باعتبارها الحديث عن مساومات «غير أخلاقي»، إلا أن ما سُرِّب عبر الصحافة الأميركية من أن الجانب التركي تلقّى عرضاً سعودياً يشمل «حزمة مساعدات مالية واستثمارات وإنهاء حصار قطر» يثبت أن حديث «المساومات» موجود على أقلّ تقدير، لكنّ السؤال يتمحور حول حجم «الثمن» الذي تريده أنقرة.
إبقاء أردوغان الباب موارِباً أمام المفاوضات، يمكن استشفاف ما يثبته أيضاً من ردّ الفعل السعودي على خطاب الرئيس التركي. إذ بدا، من خلال وسائل الإعلام الموالية للمملكة، أن ثمة ارتياحاً لما أتى به موقف أنقرة الرسمي. كذلك إن تعليق مجلس الوزراء السعودي على الخطاب، الذي وعد بـ«استجلاء الحقيقة ومحاسبة المقصّر كائناً من كان»، وبما سمّاها «إجراءات تصحيحية»، أنبأ باعتقاد الرياض بأن الرواية التركية لم تنسف بيان «الاعتراف السعودي»، وبأن هذا الأخير قابل للتسويق في نهاية المطاف، مع إمكانية إدخال تعديلات عليها بهدف لجم الحملة العالمية على السعودية. واستعجالاً منها لترتيب ذلك المخرج، أعادت المملكة أمس تذكير حليفها الأميركي بأنها الحارس الأمين لمصالحه، وبأنه لن يجد أفضل منها رأس حربة في خططه ضد إيران. هكذا، أعلنت المملكة وضع الحرس الثوري الإيراني، وقائد «فيلق القدس» فيه قاسم سليماني، على قائمة «الإرهاب». وقبلها بيوم، طمأنت، واشنطن، إلى أن لا نية لديها لفرض حظر نفطي على المستهلكين الغربيين، وأنها ستبذل جهودها لتعويض النقص المتوقّع في المعروض عقب سريان العقوبات على إيران.
هذا الاستعجال السعودي يوازيه أيضاً حرص لدى إدارة ترامب على استنقاذ حليفتها، وإبعاد الخطر عن «الرجل الكنز» محمد بن سلمان. لكن دون ذلك عقبات عدة، على رأسها أن تركيا لن توقّع «صكّ البراءة» بالمجّان، وأن الثمن المطلوب من قِبَلها لا يبدو مقتصراً على ما يدور في خلد السعوديين من استثمارات ومشاريع، بل قد يتجاوزها إلى ملفات أكبر، لعلّ ما يقلق ترامب أنه سيضطر في دائرتها إلى المفاضلة بين أنقرة والرياض. وفي انتظار القرار الأميركي، تستمتع تركيا بتصفية حسابها القديم مع السعودية، متحاشية الإقدام على خطوة حاسمة في مسار الأزمة، وفاتِحة الأخيرة على المزيد من التساؤلات والاحتمالات والسيناريوات الدرامية.