إيلده الغصين – الأخبار
تبدو الأشرفية من خارجها مُغرية. يعتقد كُثر أنها لا تزال مسكناً للأرستقراطيّين حصراً من أهالي بيروت، أو من يتحدّثون الفرنسيّة مثلاً ويلثغون بحرف الراء. الأمر ينطبق على قسم من شوارعها وأحيائها التي تتّسم إلى اليوم بالرقيّ في العمارة والتنظيم. لكن، في الواقع، خلف المباني الشاهقة والواجهات الحديثة، تتوارى أحياء بائسة يسكنها «بائسون»
قبل الحرب اللبنانية، كان جورج من سكان حيّ السريان في الأشرفية وحلاقاً في رأس بيروت. لعنة الحرب أجبرته على نقل سكنه إلى محلّة السيوفي الملاصقة لحيّه الأول، والانتقال بعمله إلى منطقة الدورة. قصّة جورج السبعينيّ تختصر حكايات كثيرين من سكان الأشرفيّة الأوائل والتغيّرات التي لحقت بحياتهم ومنطقتهم بسبب الحرب والمضاربات في سوق العقارات. لعنة الحرب لاحقت أيضاً صديقه الذي يشاطره الجلسة في ساحة ساسين. يتقاسم الصديقان، منذ زمن، جلستهما اليوميّة على المقعد الخشبي في الساحة. يتشاركان أيضاً ورقة اليانصيب حين يمرّ «موزّع الحظ»، مع أن الحظّ لم يبتسم لكليهما. قبل الحرب، كان صديق جورج من سكان المريجة في الشياح، ثم «خُطف والدي وقُتل أمام منزلنا الذي تمّت مصادرته لاحقاً ولم تطأ قدماي الشياح بعدها». بعد الحادثة، استقرّ الصديق ــــ الذي رفض ذكر اسمه ــــ لسنوات مع عائلته في شارع لبنان التراثي في الأشرفية. «في البداية كان الإيجار زهيداً وكنا نتمكّن من سداده، لكن صاحب الملك صرفنا بتعويض فانتقلنا إلى عين الرمانة».
الارتفاع التدريجي في سقوف الإيجارات في الأشرفية، إنما بتفاوت بين شارع وآخر، إضافة إلى فورة سوق العقارات، عوامل دفعت بالعديد من سكانها «الأصليين» إلى السكن والتملّك في مناطق قريبة مثل عين الرمانة وفرن الشباك وحرش تابت وسواها من مناطق المتن وبعبدا وكسروان.
رغم أن السكن فيها يعدّ «امتيازاً»، إلاّ أن الأشرفية لم تخرج «ببعدها السوسيولوجيّ» من ذاكرة وحنين «النازحين» منها إلى مناطق مجاورة… وإلا لماذا يجلس «الصديق» يومياً في ساحة ساسين؟ ربما يحنّ إلى المنطقة التي أصبح فيها يتيم الحرب بدوره «مقاتلاً مع الشباب، وأعرف سكانها جيّداً».
ساسين «البداية»
لا تزال ساحة ساسين «القلب» النابض للأشرفية ونقطة الربط بين أوصالها. شكّلت هذه الساحة رأس تلّة الأشرفية حين كانت مصيفاً لسكان العاصمة وقام فيها أوّل تجمّع سكني. هذه الساحة، يستهدفها اليوم مشروع مخطّط جديد لتطويرها وإعادة تأهيلها، وهو السبب الذي دفع ببعض المحال إلى الإقفال قبل بدء التنفيذ. في ساسين نصب للشهداء وصورة «البشير» وبقايا روايات السكان عن حرب المئة يوم والمسلّحين و«الجابيّة»… هي معالم تقطع الزمن بين أشرفيّتين: المصيف الهادئ قبل الحرب لسكان بيروت حيث بساتين التوت والأكيدنيا والتين والزيتون، والمركز التجاري بعد الحرب وسوق المصارف والمباني المرتفعة.
منها تتفرّع شوارع الأشرفية الرئيسيّة لتفصل بين أحيائها الأرستقراطيّة وتلك الأكثر شعبيّة. تلك الشوارع تحمل أسماء بدلالات تاريخيّة مختلفة، مثل شارع الاستقلال وألفرد نقاش وسواهما، لتعود وتتصل بشوارع فرعيّة مثل عبد الوهاب الإنكليزي وجرجي زيدان وشارل مالك وسرسق. تتحدّد خريطة الأشرفية، التابعة لمدينة بيروت وبلديّتها، بشكل هندسيٍّ من ستة أضلاع أو طرقات أساسيّة (طريق دمشق، بشارة الخوري، باستور، غورو، أرمينيا وبيار الجميل)، ويقبض هذا التصوّر الجيومتري في داخله على أبرز أحياء الأشرفية: السيوفي، كرم الزيتون، الجعيتاوي، مار متر، التباريس، سرسق، السوديكو، الروم، الحكمة، أوتيل ديو… وغيرها، مع كلّ ما تحمله هذه الأحياء من تفاوت طبقيّ وتباين اجتماعي.
«أوّل محل حلويات»
بالقرب من ساحة ساسين، محل لبيع الحلويات بواجهة باهتة على عكس باقي الواجهات «المودِرن». يشبه المحل دكاكين بيروت «القديمة»، والحلويات العربيّة على رفوفه خير دليل: معكرونة، نمورة، صفوف، ملبن، نوغا، والمن والسلوى. يفاخر جان بأنه يصنع البوظة العربية «على الإيد»، كذلك الكنافة التي يواظب على «شراء الجبنة الخاصة بها من أحد المحال العتيقة في رأس بيروت حتى في عزّ الحرب». جاء جان بصناعة الحلو العربي من شرق صيدا، وافتتح منتصف الستينات «أوّل محل للحلويات في ساسين» على حدّ قوله.
تنقّل «الحلونجي» في سكنه «من الجميزة حيث تعرّفت بزوجتي، إلى اللعازارية بإيجار قديم راح يتزايد مع الوقت لكنه لا يزال مرحوماً». واللعازارية محلة أخرى في الأشرفية ترتبط تسميتها بالرهبان وأديرتهم مثل مار متر ومار نقولا. يروي جان ما يذكره عن المنطقة: «أخذت المنطقة اسمها من الآباء اللعازاريين الذين بنوا ديرهم هنا في مكان كان حرجاً، بعدما باعوا أملاكهم التي لا تزال تحمل اسمهم في ساحة البرج». يشكو جان من «غياب عين ماء ومراحيض في ساحة ساسين العامة». يتذكّر أيضاً «مرحلة بناء مجمّع الـABC الضخم في عقار تابع لوقف الروم، حيث أزيلت محطة الحاج مراد وبيوت سكنها وافدون من لواء اسكندرون أصبحوا لاحقاً لبنانيين». يروي أن أحد السكان القدماء من عائلة برباري أخبره «حقيقة» تسمية ساحة ساسين على حد تعبيره، قائلاً «لم تكن هناك ساحة، بل طريق على أيام السلطنة العثمانية، تملك عائلتا برباري وساسين بعض العقارات على جانبيه، ودرجت تسمية المكان بطريق ساسين كي لا يؤخذ شباب بيت البرباري الى الخدمة العسكرية». كان الراوي رجلاً ثمانينياً من عائلة برباري نفسها، روى ما «يناسبه» ومضى.
الجعيتاوي: روايات شعبيّة
في الجعيتاوي، خلف المستشفى الذي يتبادل اسمه مع المنطقة، أحياء شعبيّة ومبانٍ مشيّدة على عجل أو منهكة بفعل الزمن. الصورة عن الأشرفية من خارجها تختلف عن داخلها الحقيقيّ وواقع بعض الأحياء فيها. في الشارع أطفال يتقاذفون الطابة، وسيّدات تتحلّقن حول «ركوة قهوة». تلفت إحداهنّ إلى أن «الحيّ لا يزال يتمتع بالإلفة والطيبة». تعدّد سيّدة أخرى الأدوية التي تحتاجها وزوجها في الشهر وتحسب كلفتها أيضاً، «الناس هنا فقراء على عكس ما يعتقد البعض» تقول. بينما ترتشف قهوتها، تحكي سيلفانا بدورها قصّتها التي تنسحب على قصص كثيرين من السكان: قبل سبع سنوات انتقلتُ إلى هذا الحيّ، بعدما كنتُ أسكن في التباريس بجوار العائلات الأرستقراطيّة. بالرغم من انتقالها للسكن في حيّ شعبي ضيّق في الجعيتاوي، لا تزال سيلفانا تحمل «بعض سمات الأرستقراطية».
تتحدّث مفاخرة بأنها «تلميذة السانت فامي وخريجة حقوق من جامعة الحكمة». عملت سيلفانا في تدريس الفرنسيّة، ولذلك علاقة بتوزيعها عبارات «فرنكوفونية» خلال حديثها عن سكنها الأوّل: لا توجد جلسات قهوة كهذه في التباريس، تحتاجين لـ «رنديه فو»، كلّه وفق بروتوكولات و«أفك دي غان»، هناك تعيش «تانتات الأشرفية». هنا تلثغ بحرف الراء وتضحك، ساخرةً من تغيّر أحوالها.
يشهد فادي بدوره على التغيّرات «الطارئة» على الأشرفيّة، قائلاً «جاءها غرباء كثر، لم يعد يعيش في هذه المنازل سوى الختايرة، أما شبابها فيشترون خارجها. لن تلتقي إلا نادراً بشباب هنا لأن معظمهم هاجروا أو بحثوا عن مساكن أقل كلفة في غير مناطق». ويضيف «في الرميل يبدأ سعر الشقة الجديدة بخمسمئة ألف دولار، أما في مونو فلا يقلّ عن مليون ونصف المليون، هكذا تتصاعد أسعار الشقق حسب رقيّ الشارع». هذا «الرقيّ» يحاول التمدّد عبر الأبنية الشاهقة والشقق الفخمة الجديدة، التي تطرد ما تبقى من سكان الأشرفية القدماء وشبابها.
من العطور إلى الفلافل
يسترسل وليد صاحب محل الفلافل في الجعيتاوي في التفريق بين الأشرفية التي عرفها في شبابه والأشرفية اليوم. يتذكّر كيف تعلّم مصلحة الفلافل من والده الذي عمل في البداية عطاراً في سوق العطارين في ساحة البرج ثم قرر خوض تجربة صناعة الفلافل على عربة أمام محله. «كنت أرافقه إلى المحل وأنا في السابعة من عمري، كان والدي يدفع ليرة واحدة لصاحب التاكسي، وربع ليرة حلوينة، ليقلّني السائق مع والدتي من ساحة البرج إلى بيتنا في شارع بيضون في الأشرفية». زمن وليد تغيّر كثيراً عن زمن والده، في الماضي «كنا نمشي في طلعة رزق وكانت خضراء تماماً، لدرجة أننا كنا نميّز رائحة الزهور على اختلافها»، أما اليوم «كلّه أصبح باطوناً. كان والدي يقول يلي بدو يصيّف كان يطلع عالأشرفية، فيما صرت في الصيف أصعد إلى الجبل. حتى الهواء تغيّر، وروائح مكب الكرنتينا خير دليل».