كأنّ التاريخ يعيد نفسه في القبيّات، فالمشهد ذاته تكرّر بفارقٍ زمنيٍّ يلامس السنة: مئات الأشجار المعمّرة تشتعل في حريق امتدّ لأيّام على مساحة نحو 700 ألف متر مخلّفاً مجزرة بيئية قد تكون الأكبر، لكنّ المخيف في هذه القضية هو ترجيح أن يكون الحريق مفتعلاً، فهل وصل العقل البشريّ إلى هذا الحدّ من المرض لتنال أذيّته حتّى الطبيعة؟
الحرائق في غابات القبيّات اشتعلت منذ يوم الجمعة حتى صباح أمس، رغم الجهود الجبّارة التي بذلتها فرق الدفاع المدني وطوّافات الجيش والمتطوّعون، للسيطرة على رقعة النيران التي ما إن تُطفأ في مكان حتّى تشتعل في أماكن أخرى بفعل الرياح التي تسببت بتفاقم الوضع بشكل كبير، أولاً من ناحية مساهمتها في اتّساع رقعة الحريق، وثانياً في عرقلة جهود الساعين إلى إطفاء النار، الذين باتوا يعانون من استنشاق الأدخنة.
وفي هذا الإطار، أوضح رئيس بلدية القبيّات عبدو عبدو لـ”الجمهوريّة” أن “الحريق اشتعل بالتزامن في منطقتين منفصلتين بمسافة تفوق الكيلومتر، وعادةً عند اشتعال الصنوبر فإنّه يؤثر على المنطقة التي تحيطه بمسافة نحو 100 متر كحدٍّ أقصى، وهذا دليل على أنّ الحريق مفتعل”.
وأضاف: “السنة الماضية شبّ حريق في منطقة محاذية، ويومها أوقف مفتعله وتبيّن أنّه راعٍ، وهدفه تحويل المساحة لأرض بور، حيث تنبت الأعشاب ما يسمح لماشيته بالرّعي فيها، لكن لا نعرف ما إذا كانت الأسباب هي نفسها هذا العام»، ويشرح أنّ «نحو 700 ألف متر اشتعلت، وتشكّل أشجار الصنوبر 90 في المئة من المساحة، وهي تُعتبر من الأشجارالمعمّرة أي انّ عمرها يفوق الـ100 عام، كما أنّها راسخة ضمن غابة كثيفة وظليلة، لكنّ الخوف تفاقم عندما وصلت النيران إلى طرف محميّة الشوح والأرز حيث تمتدّ إحدى الغابات التي تبلغ من العمر نحو 1200 سنة والتي تُعتبر كنزاً بيئياً لا يمكن التفريط به”.
ويشير الى أنّ “عمل الطوّافات كان صعباً نتيجة سرعة الرياح، فلم يكن أمامنا حلّ سوى فصل منطقة الحريق عن باقي المناطق وتطويقها لمنع امتداده، كما فتحنا طرقات بالجرّافات ليتمكّن الدفاع المدني من الوصول الى منطقة الحريق الذي استمرّ من يوم الجمعة عند الساعة الثانية من بعد الظهر حتى أمس صباحاً، لكنّ المنطقة الواقعة في منتصف الوادي ما زالت مشتعلة إلّا أنّها مطوّقة، ولا حلّ سوى انتظارها حتى تنطفئ طبيعيّاً لأن لا إمكانية أمام الدفاع المدني، ولا حتى الطوّافات للوصول إليها، لكنّ الخطورة تكمن في احتمال تجدّد الحريق من الجمر”.
وفي هذا السياق، فإنّ المعلومات تشير الى أن نحو 80 في المئة من الحرائق التي تطال الأحراج مفتعلة بهدف التكسب من مخلّفات الأشجار المحترقة، وليس بسبب الإهمال، وكما اعتدنا في لبنان فالقوانين متطورة جداً إلّا أنّ تطبيقها شبه معدوم، فلحظ قانون الغابات الصادر في 7/1/ 1949 إجراءات خاصّة لحماية الثروة الحرجية في المواد الآتية: المادة 106: “لا يجوز لأحد أن يحرق الشوك والعشب والقشّ وغيره من النبات إلّا برخصة من مصلحة الغابات في الأراضي الواقعة على بعد أقلّ من 500م من الغابات وذلك من 1 تموز إلى 13 تشرين الأول وعلى الأقل من 200م من أول تشرين الثاني إلى 30 حزيران إلّا إذا رخّص بخلاف ذلك”.
المادة 107: “يكون مضرم النار في جميع الأحوال مسؤولاً مدنياً عن الأضرار التي يسببها للغير دون أن تترتّب من جراء ذلك مسؤولية على الدولة”.
المادة 108: “إذا حدث حريق في الغابات فيكون لممثلي مصلحة الغابات ولمأموري الأمن ولممثلي السلطة الإدارية الحقّ في استخدام جميع الأشخاص وحيوانات الحمل والجرّ ووسائل النقل والمعدّات التي تقتضيها الحال”.
المادة 109 تنصّ على انّه: “يمنع الرعي مدة 10 سنوات على جميع مساحة الغابة المحروقة أو المقطوعة”.
ويعاقب قانون الغابات كلّ من يفتعل حريقاً بالحبس من سنة إلى 3 سنوات. أما إذا كانت الأرض المحروقة مصنّفة كمحميّة، فتكون العقوبة الحبس من 3 إلى 5 سنوات بالإضافة إلى غرامة مالية تتراوح بين 5 ملايين و20 مليون ليرة لبنانية.
لكن في بلادٍ يُسحق فيها أحياناً حقّ البشر، هل ستنصف الدولة حقوق الثروة الحرجيّة؟ الجواب معروف.