تأتي الذكرى الخامسة عشرة لاستشهاد الرئيس رفيق الحريري فيما لبنان يواجه أخطر تحد وجودي منذ تأسيسه، وقد شاءت الأقدار أن تتقاطع مع المئوية الاولى لإعلان قيام دولة لبنان الكبير كمشروع يعد بدولة وطنية مدنية عمادها القانون وتكافؤ الفرص والعدالة الاجتماعية وتشارك المواطنة لا شراكة الفساد والمحاصصة الطائفية و النفعيات المذهبية.
وعليه لا بد من عرض الحقائق الآتية :
أولاً : نعيش اليوم في ظروف سياسية شبيهة بما كانت في تسعينات القرن الماضي من معارك عبثية إلغائية بخطاب عنصري وطائفي بغيض يتميز بشعبوية ساذجة تتوهم القدرة على اعادة عقارب الساعة الى الوراء بحثا عن زعامة واهية متأتية من عقدة نقص تجاه زعماء وقامات طبعوا تاريخ لبنان الحديث بما يليق به من رسالة مميزة في هذا الشرق فكانوا رجالات دولة عزّ امثالهم.
ثانياً : تأتي هذه الذكرى وهؤلاء العبثيون يجددون هجومهم على سياسات اقتصادية يحصرون بداياتها في العام 1992، علماً انها طبعت هوية الاقتصاد اللبناني منذ عام 1934، لكن تركيزهم على العام 1992 ناتج عن الكيد السياسي للحريرية التي اعادت تظهير اسم لبنان الدولة بعد ان كان طوال 15 عاما ساحة ونموذجًا للتقاتل والحرب الأهلية، وتحملت مسؤولياتها الوطنية بنبذ العنف حين انقذت، من أتون الحرب الأهلية، نحو 35 الف شاب لبناني من جميع الطوائف و المناطق وسلحتهم بالعلم والمعرفة والتكنولوجيا الحديثة في ارقى جامعات العالم المتحضر.
ثالثا : ان الحريرية الوطنية التي أرسى لبنتها الرئيس الشهيد رفيق الحريري وتابع مسيرتها الرئيس سعد الحريري هي التي أعادت إطلاق ثقافة السلام والحوار بين جميع مكونات المجتمع اللبناني وهي التي جعلت من لبنان محور استقطاب للدول العربية حكومات ومجتمعات وأعادته إلى الخريطة الإقليمية والدولية، اما العبثيون العابثون بمصير الوطن والمواطن فلقد انجزوا، اليوم، عزل لبنان عن محيطه العربي التاريخي ودمروا حضوره على المنابر الدولية.
رابعاً : ان الحريرية وبيئتها الحاضنة هي التي تبنت القضية الفلسطينية ممارسة ووجداناً باعتبارها قضية العرب المركزية وترى صراعها مع العدو الصهيوني صراعا وجوديا ايديولوجيا خلافاً لما كان صرح به البعض في هذا الشأن لغايات تسويقية رئاسية يعد بها نفسه، وهذه الحريرية الوطنية هي التي نظمت القمة العربية في بيروت عام 2002 وفيها اطلقت مبادرة السلام العربية، وهي التي دعت رئيس دولة فلسطين الشهيد ياسر عرفات إلى حضور المؤتمر كما ان هذه الحريرية الوطنية لم تسجل في تاريخها الوطني دفاعها، يوما، عن عملاء لبنانيين للعدو الصهيوني، او اتخذت موقفاً تبريريا لعمالتهم له كما فعل البعض.
خامساً :سجلت الحريرية موقفا وطنيا قوميا مشرفا عندما أرسى الرئيس الشهيد رفيق الحريري ما عرف بتفاهم نيسان عام 1996،الذي شرع، دوليا، مقاومة اللبنانيين العدو الصهيوني من اجل تحرير الارض.
سادساً :يتهم العبثيون الحريرية السياسية بأنها مسؤولة عن تراكم الدين العام في حين ينكرون وحلفاؤهم (الذين تسلطوا على وزارة الطاقة منذ عام 96 وحتى تاريخه) دورهم في ذلك الامر الذي جعلهم ينتجون بدل الطاقة ديناً قدره زهاء 43 مليار دولار اي ما يوازي 50% من الدين العام .
سابعاً : ان المكائد السياسية التي تعرض لها الرئيس سعد الحريري منذ العام 2005 وحتى تاريخه أدت الى حصر عدد سنوات مسؤولياته بست سنوات من اصل ١٥ سنة منها تسع سنوات تعطيل من العبثيين وحلفائهم بدءا من حصار السراي وضرب الدورة الاقتصادية في العاصمة ثم تعطيل تشكيل حكومتي كل من الرئيسين نجيب ميقاتي وتمام سلام لسنتين من اجل توزير جبران باسيل، ولا ننسى أن اهمها تعطيل انتخابات رئاسة الجمهورية لاكثر من سنتين اصراراً منهم على ايصال العماد ميشال عون ثم يتساءلون عن أسباب تردي الاوضاع الاقتصادية و انهيارها .
ثامناً : ان المنهج السياسي الوطني الاجتماعي للحريرية هو ما اعاد النهوض بالاقتصاد اللبناني بعد الحرب العبثية المدمرة، واعاد إعمار وسط بيروت كملتقى لجميع مكونات الاجتماع اللبناني، وحافظ على السلم الأهلي وحل الخلافات عن طريق الحوار. إنه منهج اعادة بناء الدولة العادلة والحاضنة لجميع ابنائها ، ومنهج التفهم الحقيقي والواقعي لهواجس جميع الطوائف اللبنانية الذي ترجم من خلال إنجاز اتفاق الطائف الذي أنهى الحرب اللبنانية ، منهج إعداد دخول لبنان واللبنانيين الى عصر اقتصاد واجتماع المعرفة ، منهج تطوير برامج التعليم الرسمي في كافة مراحله وتحويله الى برامج رقمية باعتبارها احدى عوامل تجديد الميزة التفاضلية لشابات وشباب لبنان للدخول الى الاقتصاد الرقمي و تأمين فرص العمل لهم داخل لبنان وخارجه مستقبلا، منهج حماية البيئة التي تؤسس لسياحة بيئية منتجة ، منهج رعاية وترشيد القطاعات الإنتاجية المتخصصة التي تتميز بالتنافسية و بالقيمة المضافة ، منهج مكافحة الفساد والفاسدين في القطاعين العام والخاص من خلال الإصرار على القوننة الواضحة لاستقلالية القضاء ومكافحة الانتقائية في هذا المجال ، منهج اشراك الرأسمال الوطني في المشاريع الاستثمارية التي تتميز بعائدية بما يساهم في مكافحة احتكار تعهدات الاعمال نتيجة المحاصصة السياسية.
تاسعاً : تأتي الذكرى الخامسة عشر هذه لاستشهاد مؤسس الحريرية الرئيس رفيق الحريري وتيار المستقبل يواجه جميع تلك التحديات على الصعد كافة في ظروف صعبة وهو الذي اتخذ خيار المعارضة البناءة بعيدا عن الكيدية السياسية وهي مناسبة مهمة لمسيرة التيار من اجل القيام بعملية تقويم شاملة ولإجراء عملية نقد ذاتي بناء من اجل الانطلاق في إعادة بناء الثقة المترنحة مع حاضنته الاجتماعية العريضة على مساحة الوطن والعمل الجاد على اعادة هيكلة بنيته التنظيمية وتجديدها جذرياً وليس شكليا باعتباره تياراً وطنياً جامعا وفق ما اراده الرئيس المؤسس، كما ان وضع أسس التفاعل والتكامل مع كتلته النيابية مسألة حيوية في تفعيل دورها التشريعي بما يلبي حاجات ومصالح المواطنين العامة مع الأخذ بموجبات بلورة رؤية وبرنامج سياسي اجتماعي يحاكي التحولات الطارئة على الاجتماع السياسي اللبناني التي تبلورت مع انتفاضة الشعب اللبناني في ١٧ تشرين الاول من عام 2019 وضرورة القراءة الواقعية للتحولات الجيوسياسية الإقليمية والدولية وذلك تفعيلًا لدوره وحضوره في المعادلة الوطنية والعربية والدولية.