كتب منير الربيع في "المدن": بعد أكثر من 100 يوم على انتفاضة اللبنانيين، وما رافقها من تخبط سياسي في أعلى مستويات المكونات السياسية اللبنانية، تقيّم الدول النافذة ما حدث في لبنان، وتضع رؤيتها للمرحلة المقبلة.
فوضى ولا مساعدات
ومما خلُص إليه بعضها: القوى السياسية اللبنانية لم تبذل أي جهد لمراجعة توجهاتها، بل فعّلت حروب الانتقام في ما بينها، فعزز بعضها مواقعه على حساب الآخرين. وهذا سيؤدي إلى مزيد من الانهيار في بنية الدولة اللبنانية، وغياب أي أفق لحلّ الأزمة، للحصول على مساعدات جدية من الخارج.
وتتوقع النظرة الدولية أن تتزايد الصراعات اللبنانية، بعدما رفعت الولايات المتحدة الأميركية شروطها أمام الحكومة الجديدة: منع المس بحاكم مصرف لبنان وقائد الجيش.
وبعد تشكيل الحكومة، لم يخرج السفراء، وتحديداً سفراء دول مجموعة الدعم الدولية، بأي انطباع إيجابي من لقاءات عقدوها مع المسؤولين اللبنانيين: ليس من خطة واضحة لدى الحكومة أو لدى العهد، للخروج من المأزق الاقتصادي والمالي في لبنان. وما تركز عليه القوى السياسية، ينصبّ على مصالح آنية فحسب، لتحسين مواقعها في السلطة، بدلاً من بحثها عن حلول جذرية تنقذ لبنان من الانهيار.
تُجمع الدول المختلفة على ضرورة الحفاظ على استقرار لبنان. لكن نظرتها متشائمة، بسبب تزايد منسوب الفوضى السياسية والاجتماعية، والتي تغذيها قوى متباينة.
والخلاصة: لا مساعدات جدية وحقيقية للبنان كي يخرج من أزمته. أقصى ما يمكن تقديمه، هو مساعدات عينية، أو على القطعة. والبنك الدولي، على ما تكشف معلومات، قدّم عرضاً بتسليف لبنان قرضاً تبلغ قيمته حوالى 450 مليون دولاراً للحصول على مساعدات غذائية في مواجهة الفقر.
ثلاث قوى
ويخلص مسؤولون دوليون إلى أن الأزمة الحالية بينت بوضوح وجود قوى ثلاثاً:
- الأولى حزب الله الذي يعرف ماذا يريد، وقادر على ضبط شارعه وتوفير احتياجاته، ويلتزم مساراً سياسياً واستراتيجياً واضحاً في ارتباطه بإيران، مالياً وعسكرياً. ويمتلك كتلة شعبية كبرى تسيطر على أهم منقطتين في لبنان: حدوده الجنوبية مع إسرائيل، أي منطقة ترسيم الحدود والتنقيب عن النفط. ومنطقة الحدود مع سوريا. ومهما عصفت رياح التغيير السياسية فإن حزب الله يحافظ على كتلته وموقعه ودوره وشعاراته. وهذا ما يجعله مفاوضاً أساسياً مع المجتمع الدولي في المرحلة المقبلة.
- الثانية، وهي قوى سياسية أصيبت بالكثير من الضربات والضعف، وتصارع في سبيل البقاء، مثل حركة أمل، الحزب التقدمي الاشتراكي، وتيار المستقبل، والقوات اللبنانية، وسواها.
- الثالثة، تتمثل برئيس الجمهورية المسيحي القوي، والذي يتمتع بتمثيل واسع في البيئة المسيحية مع رئيس تياره جبران باسيل. والرجلان لديهما أهداف يعملون عليها، وهي بعيدة كل البعد عن معالجة الأزمة العميقة في لبنان: هدفهما الأول الانتقام من السياسيين الذين يخاصمونهما، وتأمين استمرارية وجودهما وبقائهما في السلطة، بواسطة ديماغوجيتهما الشعبوية في الشارع المسيحي، وتحالفهما المتين مع حزب الله، والرهان على تطور المرحلة المقبلة وما يرتبط بصفقة القرن. وفي المرحلة المقبلة سيعمل عون - باسيل على استثارة عصبية المسيحيين، بتركيزهما على خطاب واضح يستهدف الفلسطينيين والسوريين ويربطان وجودهما في لبنان بالأزمة الاقتصادية والاجتماعية، وبسياسات الحريرية السياسية وشركائها منذ التسعينيات، أي وليد جنبلاط ونبيه بري. وفي عملية تعمية جمهورهما سيعتبران أن هؤلاء هم أصحاب مشروع التوطين. وغايتهما تحميل الثلاثة مسؤولية ما يتولون تنفيذه (التوطين)، ليقولوا إنهم لم يتمكنوا من مواجهة ما زرعه الآخرون.
ما بعد الطائف
لا ينفصل هذا الوضع عن مجموعة أسئلة طرحت على رئيس الجمهورية وفريقه حول الانهيار الاقتصادي والمالي، والذي يؤدي إلى انهيار المنظومة السياسية التي يطلق عليها اسم الطائف، ويؤدي انهيارها إلى أن لبنان سيكون أمام نموذج جديد.
هنا تأتي الأجوبة من قسمين، لكنهما ينمّان عن نوع من الارتياح لما قد يجري. فالانهيار الذي يُحكى عنه، يقال إن الشيعة والدروز قادرون على التكيف مع وقائعه المستجدة، من خلال الزراعة والاكتفاء الذاتي بالحد الأدنى. بينما السنة سيجدون من يعيلهم. لذا يبرز السؤال الأساسي: ماذا يفعل المسيحيون الذين يعتبرون من أصحاب المصارف والوكالات التجارية والشركات الكبرى. وهي تعتبر من أشد المتضررين من الانهيار؟ الجواب هنا يأتي على سبيل ذر أوهام الطمأنينة في الأذهان: كل شيء سيعود كما كان. فهناك نفط وغاز في لبنان سيعيدان الأمور إلى طبيعتها، وبالتالي لا خوف على المسيحيين الذين من واجبهم مواجهة توطين الفلسطينيين والسوريين، لمنع حصول أي عملية تغيير ديمغرافي. هذا الجواب غير واقعي في تصنيف الخلاصة الدولية، ولا يستند إلى قراءة موضوعية، وسيؤدي إلى استمرار الأزمة وتفشيها.
أما في ما يتعلق بالجواب على مصير النظام السياسي اللبناني، فيأتي مرتاحاً: الانتفاضة الشعبية سيتغيّر مسارها جذرياً. فبعدما صار جزء كبير منها على تنسيق مع القصر الجمهوري، فإنه سيوجه سهامه في المرحلة المقبلة إلى أصحاب سياسات التسعينات: نبيه بري ووليد جنبلاط والحريرية.
وبالتزامن مع ذلك، ستسلك سكة تغيير النظام السياسي طريقها الطويل، وبعناوين عديدة: اللامركزية الإدارية الموسعة، أو الفيدرالية المقنّعة. ولن يقوى دروز وسنة ضعفاء على مواجهة مسيحيين أقوياء وشيعة أقوياء متحالفين، وسيقبل الضعفاء بما يُفرض عليهم.