"أحاول الآن أن أبتعد عن وسائل التواصل الإجتماعي قدر المستطاع. اعتدت تخصيص دقائق الفراغ في يومي الطويل لجولات سريعة في "فيسبوك"، ولذلك عبثاً أفلح في إبعاد نفسي عن الهاتف، وبالتالي إبعاد تلك الكأس المرّة عن فمي. منذ متى أصبحت "السوشيل ميديا" كأساً مرّة بالنسبة إليّ؟!
في الحقيقة، منذ الصباح الباكر. منذ صباح هذا اليوم. لا. للأمانة والحقيقة... منذ أمس. لا أعلم لماذا صار الناس يستعجلون إطلاق المعايدات وأطيب التمنيات قبل حلول العيد نفسه! كأنّي بهم خارج الجاذبية ومنطق الزمن كلّما اقترب عيدٌ. أو كأنهم يخافون ألا يحلّ.
منذ أمس وأنا أرى صور أمهات أصدقائي مرفقة بأجمل الكلمات والأشعار، ومزيّنة بقلوب وورود حمراء تبدو كأنّها حقيقية كتلك الصامدة بوحدتها في حديقتنا.
إنهنّ جميلات. جميعهنّ جميلات كثيراً. الأجمل هي ردودهنّ على منشورات أولادهنّ المزدحمة في عالم افتراضي يزاحم عالمي الواقع والخيال في آن.
والدات يجبن بقلوب حمراء كثيرة. أخريات بكلمات عربية مكتوبة بأحرف لاتينية كلّها إيقاع وجماليات كرقصة سامبا. الأكيد أنّ أمراً واحداً تفعلنه جميعهنّ: البكاء في خفاء جدران السوشيل ميديا تعبيراً عن السعادة ومحاكاة لمشاعر الأمومة، ومن ثمّ الدعاء لفلذات الأكباد بطول العمر والصحة وتحقيق الأحلام.
منذ أمس، وأنا أقع على مثل هذه المشاهد، فيسقط قلبي من مكانه. أعيده إلى حيث كان بعد أن أرمي بهاتفي على كنبة متعبة. أجهد في إلهاء نفسي، لكنني سرعان ما أجد نفسي هاربة مجدداً إلى هاتفي المحمول، فأخوض من جديد حرباً طاحنة مع فؤادي المتمزق.
أعرف أنّ قلبي ليس ممزقاً مثل قلوب أولئك الذين يستذكرون أمهاتهنّ الراحلات أيضاً على "فيسبوك". هؤلاء تحديداً يُخففون من هول وجعي... وهذه مفارقة عظيمة إذ يُفترض أن تطرحني هذه "المشاهد" أسيرة ألم لا يُحتمل ولا يؤجل!
أشعر بالإمتنان. أشكر خالقي على نعمته الكبيرة. ماذا يكون وجعي أمام أوجاعهم؟ هم الذين حرمتهم الحياة، الحياة، إثر موت أمهاتهم؟! من أكون أنا وفي أي مرتبة من مراتب الشجن أعيش كي يحق لي النظر في "بوستاتهم" أو دمغها بوجه أصفر يذرف الدموع؟!
لن أفعل أي شيء.
أطفئ هاتفي كليّاً. أسحب التيار الكهربائي من "الراوتر". أدنو من تلك الكنبة المتعبة حاملة في يدي قالب حلوى مغطى بورود المارينج الزهرية. أحمل في يدي الأخرى عدداً من الشموع. سأدعها تختار العدد بنفسها. ربما تختار 25 واحدة أو 30. أعرف أنها لم تعد تجيد العدّ، ولا النفخ بشدّة لإطفاء الشموع. فلتبق مشتعلة. كتلك النار التي تهبّ فيّ كلّما نظرت إليّ بعينين تائهتين، وسألتني: "من أنت"؟!
لن أفعل أي شيء.
سأهمس في أذنها اسمي. سأخبرها كم أحبها، وكم أنها تحبني. عندئذ، أعرف تماماً أنها ستحمل رأسي المُتعب في حضنها. ستغني لي أغنيات عرفتها منذ أن اختارت لي اسمي.
كم أنا ممنونة. ما زالت فيّ حياة طالما أنّ أمي هنا. طالما ان"قديستي الحلوة" و"ملاكي" هنا"! هذه تحيّة إلى كلّ أم مصابة بالأزهايمر وكل أفراد عائلتها.