بعد اكثر من 18 عاماً في الحكم، أصبح فلاديمير بوتين رمزا لعودة روسيا بقوة الى الساحة الدولية مقابل توتر غير مسبوق مع الغربيين وتراجع واضح في وضع حقوق الانسان في بلده.
وبحصوله على 76,67 بالمئة من الاصوات بعد فرز اكثر من 99 بالمئة من بطاقات التصويت، سيبقى بوتين في الكرملين لولاية رئاسية رابعة اي حتى 2024 السنة التي سيبلغ فيها عامه الثاني والسبعين.
وصل هذا الضابط السابق في جهاز الاستخبارات السوفياتي (كي جي بي) الى الرئاسة في العام 2000 في بلد لا سلطة مستقرة فيه واقتصاده منهار. ويرى فيه كثيرون رجل الاستقرار والرخاء الجديد بفض العائدات النفطية الوفيرة، بينما ينتقده معارضوه مشيرين الى تراجع واضح في حقوق الانسان والحريات.
على الساحة الدولية، عمل الرجل الذي وصف تفكك الاتحاد السوفياتي بأنه "أكبر كارثة جيوسياسية في القرن العشرين"، على اعادة نفوذ روسيا في العالم بعدما تدهور مع سقوط الاتحاد السوفياتي وسنوات الفوضى في عهد بوريس يلتسين.
ولتحقيق ذلك، يتبع الرئيس الذي يمارس رياضة الجودو، اسلوبا يعتمد على كفاح دؤوب وثابت بحثا عن مؤشرات ضعف لدى خصمه، كما قال بنفسه في 2013 ردا على مواطن روسي طلب منه بذل كل ما بوسعه من أجل "اللحاق" بالولايات المتحدة و"تخطيها"، في شعار قديم من الحقبة السوفياتية.
هذا الاسلوب طبقه بنجاح في سوريا حيث ادى التدخل العسكري الروسي منذ 2015 لدعم نظام دمشق الى تغيير مسار الحرب وسمح للرئيس بشار الاسد بالبقاء في السلطة.
وفي السنة السابقة، قدم بوتين نفسه على أنه الزعيم الذي سيرمم "روسيا العظمى" بضمه شبه جزيرة القرم الأوكرانية بعد تدخل القوات الروسية. وقد نظم فيها استفتاء نددت به الأسرة الدولية وكييف، معتبرة أنه غير شرعي.
وهذه العملية عززت نفوذه ومكانته في الداخل، لكنها أثارت أسوأ أزمة منذ نهاية الحرب الباردة بين روسيا والغرب الذي يتهم موسكو أيضا بتقديم دعم عسكري لحركة التمرد الانفصالي في شرق أوكرانيا، وهو ما ينفيه الكرملين.
والى جانب التوتر المرتبط بسوريا واوكرانيا، اضيفت منذ انتخاب الرئيس الاميركي دونالد ترامب اتهامات بالتدخل في الانتخابات الرئاسية الاميركية، ومؤخرا جاءت ازمة غير مسبوقة مع لندن بعد تسميم عميل مزدوج روسي سابق وابنته في انكلترا.
وسعى الرئيس الروسي المولع بالرياضة، لفرض بلاده التي تستضيف هذه السنة نهائيات كأس العالم لكرة القدم، كقوة رياضية.
"تسديد الضربة الأولى"
لم تكن خلفيات بوتين تمهد لوصوله إلى الكرملين. فقد ولد في السابع من تشرين الأول 1952 لعائلة عمالية تعيش في غرفة واحدة من أحد المساكن المشتركة في لينينغراد (سان بطرسبورغ سابقا).
وقد روى على موقع إلكتروني مخصص لسيرته "جئت من عائلة متواضعة وعشت هذه الحياة لفترة طويلة جدا". وقال انه تعلم درسا من شبابه في شوارع لينينغراد "إن كانت المعركة حتمية، فعليك تسديد الضربة الأولى".
درس الحقوق وانتسب إلى جهاز الاستخبارات السوفياتي (كي جي بي) وأصبح عميلا لها، ثم اصبح بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، مستشارا في العلاقات الخارجية لرئيس البلدية الليبرالي الجديد في سان بطرسبورغ. وبعد ذلك واصل صعوده بسرعة.
ففي 1996 استدعي إلى موسكو للعمل في الكرملين. وفي 1998، عين على رأس جهاز الامن الفدرالي (إف إس بي) وريث الكي جي بي، قبل أن يعينه بعد سنة الرئيس بوريس يلتسين الذي كان يبحث عن خلف قادر على ضمان أمنه بعد تقاعده، رئيسا للوزراء.
أعجب يلتسين والمحيطون به بتكتم هذا الرجل وفاعليته. واعتقد بعض المقربين من الرئيس أنه سيكون من السهل عليهم التحكم به، غير أن فلاديمير بوتين باشر إعادة بناء سلطة الدولة بتنظيمه "خط سلطة عموديا" تابعا له حصرا.
وبعدما بات يعرف بتشدده، بدأ في الاول من تشرين الاول 1999 على اثر سلسلة اعتداءات، حرب الشيشان الثانية النزاع الدامي الذي تخللته تجاوزات ارتكبها الجنود الروس وقصف عشوائي لغروزني. وشكلت تلك الحرب اساس شعبيته في روسيا وسبب صورته كرجل صارم لا يخشى اتخاذ قرارات صعبة.
وعندما استقال يلتسين في نهاية 1999 واختار رئيس وزرائه ليشغل المنصب خلفا له، كان بوتين قد فرض نفسه كرجل البلاد القوي الجديد.
فاز بوتين في العام 2000 بسهولة في الانتخابات وسرع عملية الإمساك بالسلطة مستندا الى "هياكل القوى" اي الأجهزة السرية والشرطة والجيش من جهة، وإلى المقربين منه من سان بطرسبورغ.
احتجاجات
تحرك بوتين بسرعة لضبط رجال الأعمال الذين كانوا قريبين من السلطة وحققوا ثروات طائلة في ظل عمليات الخصخصة المشبوهة التي جرت في التسعينيات. وقد استبعدهم من اللعبة السياسية وسجن من قاومه منهم، مثل رئيس مجموعة "يوكوس" النفطية ميخائيل خودوركوفسكي الذي أطلق سراحه عام 2013 بعدما قضى عشر سنوات في السجن.
كذلك عمل الكرملين على ضبط الشبكات التلفزيونية التي كانت تتمتع بحرية تعبير موروثة من التسعينيات لم تكن لترضي بوتين. وبذلك باتت الشاشة الصغيرة في خدمته.
وفي 2008، عهد بوتين بالكرملين إلى رئيس الحكومة دميتري ميدفيديف لأربع سنوات، عملا بالدستور الذي لم يكن يسمح له سوى بولايتين رئاسيتين متتاليتين، وتولى بدوره رئاسة الحكومة. ومع الإعلان في نهاية 2011 عن نيته في العودة إلى الرئاسة لولاية جديدة تم تمديدها في هذه الأثناء إلى ست سنوات، شهدت البلاد موجة احتجاج غير مسبوقة.
غير أن التعبئة تراجعت بعد فوزه السهل بالرئاسة في ربيع 2012، وتلت ذلك حملة قمع جديدة للمجتمع الروسي مع إقرار قوانين وصفتها المعارضة بأنها تقضي على الحريات، وتشديد القمع ضد أي شكل من الاحتجاجات.
وبوتين الأب لابنتين والمطلق منذ 2013، متكتم جدا حول حياته الخاصة، ويحرص على صورته كرجل بسيط يعيش "حياة عادية" ويهوى "الروايات التاريخية والموسيقى الكلاسيكية"، مثلما وصف نفسه خلال لقاء مع شبان روس.
لكنه لا يتردد في الظهور في مناسبات عدة، وهو يمارس الجودو أو عاري الصدر على حصان في غابات التايغا الروسية أو يقود طائرة لإخماد حريق.