مع تعثر الغزو الروسي لأوكرانيا وازدياد عزلة موسكو، أصبح بعض الدول الأوروبية حذر من أن الكرملين قد يستغل مجتمعاته المفتوحة لتعميق محاولات التجسس والتخريب لإيصال رسائل معينة، أو لمعرفة المدى الذي يمكن أن تصل له الحرب في حال تطور الصراع ليشمل دول غربية، وفقاً لما ذكرت صحيفة “نيويورك تايمز”.
وأوقفت السلطات النرويجية في وقت سابق مواطناً روسياً قدم إلى البلد على أنه باحث برازيلي وعمل في جامعة بشمالي البلاد، في منطقة ذات أهمية كبيرة بالنسبة لموسكو.
وأُوقف الرجل واتهم بالعمل لصالح المخابرات العسكرية الروسية بعد أن تكرر ذهابه وعودته من وإلى روسيا، وهو ما لا يفعله الجواسيس عادة.
وفي النرويج أيضاً تم توقيف 7 مواطنين روس بعد اتهامهم بتطيير طائرات مسيرات بصورة غير مشروعة لتصوير مناطق إستراتيجية في شمالي البلاد، وكان من بينهم أندري ياكونين نجل رئيس سكك الحديد الروسية المقرب من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
وفي هولندا، تم في العام الماضي اعتقال جاسوس روسي عند وصوله إلى مطار أمستردام، وتقدم بوصفه برازيلياً تم قبوله عضواً في المحكمة الجنائية الدولية التي تحقق الآن في جرائم الحرب في أوكرانيا.
ويرى خبراء أن ذلك الجاسوس لو نجح في مهمته كان سيقدم للكرملين معلومات ثمينة للغاية، خاصة بعد أن تبين أنه يعمل لصالح المخابرات العسكرية الروسية.
والآن، وبعد أن أدت العقوبات الغربية إلى قطع الوقود الأحفوري الروسي عن أوروبا، أمست النرويج أكبر مورد للنفط والغاز للقارة العجوز.
وقد أصبح هذا الدور الحيوي أكثر عرضة للخطر منذ أيلول عقب وقوع انفجارات استهدفت خطوط أنابيب نورد ستريم بين روسيا وألمانيا، والتي تبادلت موسكو وواشنطن الاتهامات بشأنها.
وفي هذا الصدد، يرى الأستاذ بكلية جامعة الدفاع النرويجية توم نورث، أن محاولات التجسس الروسية قدمت “دعوة للاستيقاظ بأن الحرب ليست فقط في أوكرانيا”، مضيفاً أنها يمكن أن “تؤثر علينا أيضاً”.
ويضيف نورث، “لقد تم القبض على عدد من الجواسيس الروس التقليديين وطردهم في السنوات الأخيرة مما قد يجعل موسكو أكثر اعتماداً على العناصر الخاملة، خاصة مع تعثر الحرب في أوكرانيا”.
وأوضح الباحث النرويجي أن الزيادة الأخيرة في عدد حالات كشف الجواسيس تعكس حاجة روسيا الماسة للوصول إلى خلاياها النائمة.
وتابع، “في هذه المرحلة الزمنية ومع الضغوط التي تعيشها موسكو فإن أنشطة التجسس التي كانت تقوم بها موسكو من قبل أضحت تنطوي على مخاطر أكبر الآن”.
وقد بدأ النرويجيون في التساؤل عن حوادث أخرى وقعت في وقت سابق من العام، وهل هي ناجمة عن أعمال تجسس وتخريب أقدمت عليها روسيا كإتلاف كابل تحت الماء في كانون الثاني، والذي كان يرسل صور الأقمار الصناعية لوكالات الفضاء الغربية، بالإضافة إلى تضرر مخزون مائي كبير بالقرب من عدة مواقع عسكرية ليست بعيدة عن مدينة ترومسو.
ويعتقد مفتش الشرطة الإقليمي أولي جوهان سكوجمو إن “مثل هذه الهجمات كانت مفيدة لناحية زيادة المراقبة على منصات استخراج النفط”، لافتاً إلى أن “تلك الهجمات لا تزال مجهولة المصدر”.
من جانبه نأى ياكونين الابن وهو رجل أعمال يعيش في المملكة المتحدة ويحمل الجنسية البريطانية، بنفسه عن الغزو الروسي لأوكرانيا على الرغم من صلة والده الوثيقة مع بوتين.
وتم القبض على ياكونين بعد أن أوقفت السلطات النرويجية يخته، Firebird، إذ تم التحقيق معه فيما إذا كان لديه طائرات مسيرة، ليظهر لهم واحدة كان يستخدمها في التقاط صور له ولطاقمه وهم يتزلجون ويصطادون الأسماك، مستمتعين بالمناظر الطبيعية الجليدية في القطب الشمالي في النرويج.
وقال ياكونين مازحاً في مقابلة بعد أن بدأت محاكمته في 3 كانون الأول، “بالتأكيد لست جاسوساً، وذلك على الرغم من أنني أمتلك مجموعة كاملة من أفلام جيمس بوند”.
وفي حديثه لصحيفة نيويورك تايمز، رفض ياكونين التعليق على ما إذا كان اعتقاله ناجم عن دوافع سياسية، لكنه قال إنه من الغريب أنه تم اعتقاله هو وثلاثة رجال آخرين خلال فترة قصيرة في تشرين الأول.
وفي قاعة محكمة صغيرة بعيداً عن الكاميرات، دافع المهندس الروسي أليكسي ريزنيشنكو، والدموع تنهمر من عينيه عن نفسه بعد أن تم اعتقاله عقب التقاطه صوراً لأسوار مطار ترومسو وموقف السيارات الخارجي.
وقال الشاهد في القضية، مدير المراقبة الجوية إيفار هيلسينغ شروين، “لقد كان لدي شعوراً غريزياً بوجود خطب ما، ولذلك اتصلت على الفور بالشرطة”.
وفي المحكمة، انفجر ريزنيشنكو بالدموع وهو يتحدث من خلال مترجم باللغة الروسية، قائلاً إنه يخشى على أسرته، مؤكداً أنه المعيل الوحيد لها، ولافتاً إلى أن التقاط صور الطائرات والمطارات هي مجرد هواية قديمة بالنسبة له.
وعلى الرغم من عدم وجود أي مخالفات في الصور التي التقطها المهندس الروسي، فقد وجهت له تهمة تطيير طائرات مسيرة على غرار ما حدث مع ياكونين، مخالفين بذلك “العقوبات الأوروبية المفروضة على موسكو”، وبالتالي تكن هناك تهماً بالتجسس موجهة للرجلين.
وقد جادل ياكونين والعديد من محامي الدفاع للمتهمين الآخرين بأن معاقبة الروس على أساس الجنسية هو تمييز، وربما انتهاك لحقوق الإنسان.
وعلى الرغم من تبرئة ياكونين وزيرنشنكو لاحقاً، غير المدعين قرروا الاستئناف، وهنا تقول محامية الأخير آلا ألسن، “السياسة تلعب دوراً في هذه القضايا. إنهم يريدون الإدلاء ببيان للروس”.
وفي مواجهة طرق التجسس التي باتت تتبعها موسكو منذ غزوها لأوكرانيا، باتت العديد من الدول الأوروبية تنتهج استراتيجيات مختلفة إذ تسعى دول الجوار إلى إقامة جدار مع روسيا مثل فنلندا وبولندا.
وقررت فنلندا التي تمتلك أطول حدود مع روسيا منع دخول أي مواطن روسي يحمل تأشيرة سياحية، وفقاً لما ذكرت صحيفة “ليبراسيون” الفرنسية في وقت سابق.
أما النرويج قررت رفع ميزانية الدفاع بـ10% السنة وهي تفكر صراحة في إعادة أي مواطن روسي إلى حدود بلاده، في حين تعمل فرنسا بطرق مختلفة لمواجهة التجسس الروسي، فهي تلجأ حيناً لطرد الجواسيس إلى بلدهم، وحيناً تعزلهم بصورة سرية.