تأتي الذكرى السنوية لتأسيس “منظمة الأغذية والزراعة الدولية” هذه المرة في ظروف صعبة ومعقدة على مختلف الصعد الغذائية والزراعية والبيئية، إضافة الى شبح توسع الحرب الروسية – الأوكرانية الى حرب عالمية ثالثة، بدأ الكلام عنها جديا بعد تهديد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين باستعمال السلاح النووي في حربه على أوكرانيا.
التحديات التي تواجه الأمن الغذائي العالمي، دفعت المنظمة الدولية هذه السنة الى رفع شعار “أفعالنا هي مستقبلنا، إنتاج أفضل، وتغذية أفضل، وبيئة أفضل، وحياة أفضل”، هدفت من خلاله الى التشجيع على تجاوز المعوقات التي تؤثر على “الأمن الغذائي” بما فيها الصراعات، التغيرات المناخية، ارتفاع أسعار الغذاء والتوترات الدولية، والتوجه الى بناء بنية إنتاج أفضل، لضمان أنماط استهلاك وإنتاج مستدامة، والقضاء على الجوع عبر تحسين فرص التغذية بجميع أشكالها، وتعزيز أطر أفضل لحماية البيئة والنظم الإيكولوجية البرية والبحرية وإصلاحها ومكافحة تغيّر المناخ، لإرساء إمكان حياة أفضل عبر تشجيع النمو الاقتصادي الشامل من خلال الحد من أوجه عدم المساواة.
تسعى المنظمة في يومها العالمي، الى توعية الدول والشعوب وأهل القدرة والمسؤولية، على ضرورة دعم التحول إلى نظم زراعية وغذائية أكثر كفاية وشمولا واستدامة، لعدم ترك أي أحد خارج مسار النمو أو خلفه.
#لبنان الذي يعيش انهيارا غير مسبوق بالاقتصاد والنقد والشفافية والحوكمة، ليس بعيدا من انهيار الأمن الغذائي فيه كما “أنذرته” المنظمة، فبسبب الغلاء الفاحش وانهيار القدرة الشرائية، ضمرت الحصة الغذائية لغالبية اللبنانيين، وصار صعباً على شريحة واسعة منهم الحصول على اللحوم والاسماك والحليب ومتمّمات السلة الغذائية، مما يهدد بسوء تغذية. والأخطر أن لبنان، استناداً الى المنظمة، يقع ضمن “بؤرة ساخنة للجوع” مما يفاقم خطورة الوضع واقتراب شبح الجوع من أبواب اللبنانيين مع ما قد يستتبع ذلك من انعكاسات إنسانية وأمنية لا تُحمد عقباها.
والى ازمة أوكرانيا، ثمة عوامل أخرى قد تزيد الوضع سوءاً في لبنان غذائيا، وهو ما تؤكده ممثلة منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة في لبنان نورا أورابح حداد لـ”النهار”، إذ تقول إن الأمن الغذائي مقلق في بلدان العالم كلبنان الذي يواجه تحديات غير مسبوقة على جميع الصعد، بما فيها عدم توافر غذاء متنوع وآمن ومغذٍ للجميع، نتيجة الأزمات السياسية، المالية، الاجتماعية والاقتصادية المتتالِية. وهذا ما أشار إليه تقرير منظمة الأغذية والزراعة الدولية (الفاو) وبرنامج الأغذية العالمي الصادر في أيار 2022، والذي لفت الى أن لبنان هو من ضمن 20 دولة تعدّ “بؤرة ساخنة للجوع”. وفي ظل هذا الوضع، لم يعد بإمكان المواطن اللبناني تحمّل تكاليف النظم الغذائية كما لم يعد بإمكان صغار المزارعين والمزارعات تحقيق أرباح لائقة.
ونتيجة لذلك تهدد الأزمة الاقتصادية الطويلة في لبنان بدفع مزيد من الناس إلى الفقر وانعدام الأمن الغذائي، خصوصا إذا استمرت أسعار المواد الغذائية في الارتفاع، مدفوعة بتجدد انخفاض قيمة العملة وتأثير الأزمة الأوكرانية على أسعار القمح والوقود العالمية.
نتائج تقويم النظام الغذائي في لبنان صدرت منذ فترة في موجز هو نتيجة شراكة بين منظمة “الفاو” والاتحاد الأوروبي بالتعاون مع مؤسسة البحوث والاستشارات في لبنان. وهدف هذا الموجز تحديد القيود الرئيسية ونقاط مقترحة للحلول المبتكرة للسياسات والاستثمار لجعل النظم الغذائية أكثر استدامة وشمولية. وبناء على هذا الموجز، ما هي أبرز التحديات التي تواجه النظام الغذائي في لبنان؟
قد يواجه النظام الغذائي في لبنان العديد من التحديات الناجمة عن السياق التاريخي، الاقتصادي، السياسي والاجتماعي للبلاد، ومن أبرزها:
– ان الأراضي المزروعة تغطي أقل من 25% من مساحة البلاد، وهناك 170 ألف حيازة زراعية يُستخدم 25% من إنتاجها بشكل أساسي للاكتفاء الذاتي.
– ان ملكية الأراضي تتّسم بدرجة كبيرة من انعدام المساواة والتجزئة؛ حيث يسيطر80 في المئة من أصحاب الأراضي على حوالى ربع المساحة الاجمالية للأراضي الزراعية، في حين يسيطر 10 في المئة منهم على حوالى ثلثي الأراضي الزراعية.
– ان نسبة كبيرة من المعنيين بقطاع الأغذية تعمل بشكل غير نظامي.
– ان عددا كبيرا من المنتجين يعتمدون على المدخلات، البذور، المواد والمعدات المستوردة مما يؤدّي إلى ارتفاع تكاليف إنتاج الزراعة وقطاع الأغذية. وهذا يؤثر بدوره على النظام الغذائي عموما.
– ان قلة تحتكر هذه السلع المستوردة بما يعود بالمنفعة على بعض الجهات فقط.
ويتفاقم الوضع من جراء عدد من الديناميات المستمرة التي تشكل مزيدا من التحديات، لعل أهمها أنه في اعقاب أزمة 2019، تضاعفت معدلات الفقر لتعادل اكثر من 50% من السكان في لبنان لهذه السنة، كما ان ثلث السكان العاطلين عن العمل وثلثي الأسر اللبنانية قد اضطرت إلى التعامل مع انخفاض الدخل، عدا عن العواقب الوخيمة على الأمن الغذائي بسبب انخفاض القوة الشرائية للمستهلكين، إذ اتجهت الاسر اللبنانية إلى أغذية أرخص وأقل تنوعا، بما أدى إلى ارتفاع نسبة سوء التغذية وكذلك معدلات الإصابة بالأمراض غير المعدية مثل السمنة ومرض السكري وذلك في كل من المناطق الريفية والحضرية والتي تصيب الآن 32 في المئة من البالغين، كما ان انخفاض مستوى التنسيق بين أصحاب المصلحة يسمح للبعض منهم بالاستفادة من الوضع لتوريد أغذية غير آمنة .
ويلحظ التقرير أن الأزمة المتعددة الأوجه التي بدأت عام 2019 فاقمت الوضع من ناحيتين: من ناحية الطلب، قيد الانخفاض الشديد في القدرة الشرائية للمستهلكين للحصول على الأغذية، ومن ناحية العرض، قيد ارتفاع تكاليف الإنتاج وأسعار المدخلات المستوردة والقدرة على الإنتاج.
وفي اطار دعم “الفاو” المجتمعات المحلية في لبنان، تشير حداد الى أن المنظمة تدعم المزارعين والمزارعات، ولا سيما أصحاب الحيازات الصغيرة وهم في صلب اهتماماتها ومشاريعها، إذ إنهم يتأثرون بشدة من جراء الأزمات المالية والاقتصادية المستمرة في البلاد. من هنا تعمل المنظمة مع وزارة الزراعة وشركاء آخرين، على تطوير برنامج متكامل لرفع كفاياتهم وتعزيز قدراتهم. ويرتكز البرنامج على 3 محاور أهمها:
– تحويل النظم الغذائية لمزيد من الاستدامة من خلال تعزيز سلاسل القيمة وتطوير سياسات مناسبة لتحقيق الأمن الغذائي وتحسين البيئة الغذائية.
– تشجيع الإدارة الرشيدة للموارد الطبيعية بما فيها المياه والإدارة المتكاملة للغابات، وكذلك وضع آليات لتخفيف آثار التغيرات المناخية والتكيف معها.
– دعم صمود المزارعين والمزارعات.
وتشمل نشاطات المنظمة الدعم العيني والتقني للمزارعين والمزارعات في تعزيز نظم الإنتاج ومساعدة أصحاب الحيازات الزراعية الصغيرة والمزارعين على تحسين الإنتاجية، وخفض كلفة الإنتاج، ورفع الجودة، كما تدعم المنظمة صغار الصيادين لتعزيز استدامة ممارساتهم ودعم سبل عيشهم. كذلك تعمل المنظمة مع الجهات المانحة لمحاولة توسيع نطاق هذه البرامج، إضافة إلى إطلاق نشاطات جديدة لتقديم أكبر قدر من الدعم للمزارعين والمجتمعات الريفية خلال هذه الأوقات الصعبة جداً.