أخبار عاجلة
حركة الأسواق التجارية خجولة! -

فايسبوك.. قصة فشل مُعْلَن

فايسبوك.. قصة فشل مُعْلَن
فايسبوك.. قصة فشل مُعْلَن

لا شيء يؤلم أكثر من المكابرة. يشبّه مثل انكليزي الأمر، بنطح الرأس على جدار صلب. على الأقل، جرعة صغيرة من الواقعية تكفي، بل ربما تكون أكثر من كافية. لم يستمر "فايسبوك" في المسلسل البائس الذي شكلته محاولة جعل السوشال ميديا إعلاماً عاماً. 

الأرجح أن شيئاً من الاستعصاء كان ماثلاً منذ البداية: كيف يمكن الوثوق بأي شيء إذا كان كل شيء متساوياً (أو تقريباً) بين ملياري فرد يشكّلون المجتمع الدولي لشبكات التواصل الاجتماعي، فيكونون هم المصدر والحكم والمتلقي في وقت واحد؟ الأرجح أيضاً أنّ المتغيّر الرقمي أغرى الجميع بالانخراط في المحاولة، ما يعني أن ذلك الفشل له جانب ناجح آخر: لم يعد الإعلام العام بإمكانه أن يتجاهل الجمهور بمعنى أن يعامله كمجرد متلقٍ. صار دور التلقي غير المتفاعل مع الإعلام، وراء ظهر الجميع، وراء التاريخ، صار شيئاً من بقايا الماضي لا يؤمن به إلا من يريد أن يصدقه. 
 
ويصح القول أيضاً أنّ ازدواجية الفشل والنجاح، تعني أيضاً أن الإعلام العام تغيير بلا رجعة. إنه عصر جديد، لكن ذلك لا يعني ان كل شيء ممكن في المطلق، بل يحث على البحث عن الأدوار الجديدة، بكل انتباه وتحوط ويقظة.
 
ابتدأ الفشل المعلن، من نجاح لا يقل إعلاناً، بل كان باهراً. عندما فرزت أصوات الانتخابات الرئاسيّة الأميركيّة في 2016، وجاءت لمصلحة المرشّح الشعبوي دونالد ترامب، أعطى الجميع الإعلام التقليدي (الورقي والمرئي- المسموع) قُبلة الوداع. وصرخت الأصوات كلّها بأن الصحف والتلفزة ومراكز استطلاع الرأي فشلت في توقّع فوز ترامب، لأنها لم تضع السوشال ميديا في الاعتبار. 
 
لم يكن حدثاً معزولاً. جاء معطوفاً على تنامٍ مذهل لجمهور شبكات التواصل الاجتماعي، وتفاعل يومي لا يتوقف بين شاشات التلفزة وصفحات الجرائد وأروقة السياسة ومسارات الفنون وكل مجريات الحياة اليوميّة من جهة، وشبكات التواصل الاجتماعي من الجهة الثانية.
 
لنتذكر سرعة تجاوُز شبكات التواصل مرحلَة أن تعترف أقنية التلفزة برسائل الجمهور النصيّة، أو بما يرسله أفراد وناشطون من مواد مكتوبة أو بصريّة. في مثل إغماضة عين وانتباهها، استقل ذلك التيار المتدفق من أصابع الجمهور إلى شاشات لا حصر لها (خليوي، "تابلت"، "لاب توب"، كومبيوتر...)، ليصبح له شكله ومذاقه وتأثيراته التي تضرب على مدار اللحظة عبر تدوينات "فايسبوك"، وأشرطة "يوتيوب"، وتغريدات "تويتر"، وصور "آنستاغرام" وغيرها. لم يعد مهماً أبداً أن الأصل في "انستغرام" مثلاً هو تبادل الصور بين الأشخاص. تركت تلك الوظيفة البسيطة لتتصدى لوظيفة غير متوقعة: إذا كانت الصورة عن طفل مهاجر رماه موج ظالم على رمال الموت، يكون ذلك إعلاماً عاماً بامتياز.
 
لا يهم أنّ أشرطة الجنس كانت من القوى الأولى التي دفعت "يوتيوب" إلى الانتشار. جاء "الربيع العربي"، ليصبح الشريط عن أطفال حصدهم الموت في غمضة عين بسلاح أسدي كيماوي، خبراً أوّل يهزّ العالم، بافتراض أنّ في العالم ضميراً ما. وقبله، نُسِجَت علاقة يصعب نسيانها بين "فايسبوك" وحراك "الربيع العربي"، وستمر مياه لا حصر لها تحت الجسور، من دون أن تُنسى تلك اللحظات التي بدا فيها أن الخلاص من القمع بإمكانه أن يتفاعل مع العالم بأسره.
 
عبر مسار طويل ومتشعّب، تكرّست شبكات التواصل الاجتماعي إعلاماً عاماً، بل بديلاً للاعلام المؤسساتي الذي بدا مثقلاً بتاريخ من التشابك (بعضه تواطؤ، بل أكثر)، مع الأنظمة الحاكمة الثقافات السائدة. 
 
بدت لحظة انهيار الاعلام العام التقليدي، أمام الشعبوية الصاعدة أميركيّاً وأوروبيّاً، كأنها لحظة موت مأساويّة. لكن الأمر لم يدُم. ابتدأ الأمر بأن ناءت السوشال ميديا باستفادة الارهاب الاسلاموي منها، سواء للتجنيد أو لإنجاز العمل الاعلامي المستكمل لضربات الإرهاب وأيديولوجيا "التوحش" المعلن في أيديولوجيا "داعش"، وأبويها "النصرة" و"القاعدة". هرعت حكومات إلى شركات السوشال ميديا، فدخلت معها في فالس غير مبهج. وعلى إيقاع موسيقى القيود وضرورة التصدي للمحتوى المحرض على الارهاب والتطرف والعنف، تخبّطت الشركات في مهمات بدت مستحيلة. كيف يُعرف الحد الفاصل بين ضرب حرية الرأي، وبين التطرف والإرهاب؟
 
ماذا عن الذكاء الاصطناعي؟
بعد تجارب، لم تستطع تقنيات الذكاء الاصطناعي (خصوصاً "تعليم الآلات" Machine Learning)، أن تنجز تلك المهمات الهرقليّة العسيرة. وفيما الصراع مع التجنيد الارهابي عبر السوشال ميديا في اشتعال، جاءت الضربة المذهلة من واشنطن: روسيا تدخلت في الانتخابات الرئاسيّة 2016 إلكترونيّاً عبر السوشال ميديا التي كانت أداة لمجموعات منظّمة ومتمرسة، للتلاعب بآراء الجمهور الأميركي. وبفضل الذكاء الاصطناعي، شُرّح الجمهور إلى أصناف وأنماط، جرى استهداف الأقرب منها إلى تأييد ترامب. 

كيف جرى الاستهداف؟
نشرت مجموعة من الحسابات لأفراد ومجموعات صغيرة، كانت تبث أخباراً عبر السوشال ميديا من النوع الذي يلاقي هوىً عند مَن عانوا الآثار السلبية لعولمة الاقتصاد الاميركي، ومن يملكون خلفيات من الحساسية المفرطة حيال المهاجرين والملونين والمثليين والمنادين بالحريات الجنسية وغيرها. واستأجرت المجموعات مساحات اعلانية في السوشال ميديا لبث أخبارها، وكذلك الحال بالنسبة لمؤسسات اعلامية مثل قناة "روسيا اليوم". وسرت الرسالة كنار في حقل هشيم جاف: التلاعب بالسوشال ميديا أمر أكثر من مستطاع، وهي شبكات لنشر "الأخبار الكاذبة" والفبركات الإعلاميّة وما إلى ذلك. 
 
حاول "فايسبوك" أن يقاوم خروجه من كونه إعلاماً جديداً. وجرت صياغة تحالفات مع مؤسّسات إعلام تقليدية، لفصل زؤان "الأخبار الكاذبة" عن قمح الأنباء والتغطيات الموثوقة. وجرت تجربة "العلم الأحمر" الذي يفترض أن يفضح إفك الزيف. لكن، عبثاً. ذهبت أدراج الريح تلك الجهود. ببساطة، لا مركز معيّناً (أو أكثر) يبث أخباراً كي يُمنع، ليس هناك حتى من نمط كي تجري متابعته. 

هناك تواصل ضخم بين مئات ملايين البشر على مدار الساعة، ويفتح الأمر مجالاً أمام احتمالات شتى. تدل السابقة الروسيّة (تكررت بشكل أقل في غير بلد أوروبي) على أنّ من يملك امكانات ضخمة في التقنية الرقمية، يستطيع فعل أشياء كثيرة للتأثير في الآراء المتبادلة عبر الشبكات. 
 
بغض النظر عن الخلاصات النهائيّة، أدت المعطيات السابقة إلى هزّ تجربة تحوّل السوشال ميديا إلى إعلام عام. أقرّ مارك زوكربرغ بالأمر الواقع، بعدما لاحظ تدنيّاً في الاقبال على شبكة "فايسبوك". وبكلمات لا لبس فيها، أعلن أن "فايسبوك" يعود إلى عمله الأول باعتباره مساحة لتبادل أخبار العائلة والأصدقاء والجيران. وكذلك أعلن أنه سيعتمد على المؤسّسات الاعلاميّة التقليدية الموثوقة في الأخبار التي يقدمها "فايسبوك" لجمهوره، وهو تسليم واضح بعدم قدرته على أن يكون بديلاً لها. 

الكاتب: أحمد مغربي
المصدر: جريدة المدن 

اشترك فى النشرة البريدية لتحصل على اهم الاخبار بمجرد نشرها

تابعنا على مواقع التواصل الاجتماعى

التالى ترامب يطالب بايدن بإجراء اختبار معرفي بسبب قرارته “المريعة”