انكشفت معطيات مثيرة عن عملية تلاعب بحسابات مصرف لبنان، أدّت إلى نفخ الأصول والموجودات بنحو 21,2 مليار دولار، أي ما يوازي 38% من الناتج المحلي الإجمالي المقدّر بنحو 56 مليار دولار في 2018. هذه الفضيحة تستدعي التشكيك في صحة حسابات «المركزي» وأرقامه ومؤشراته!
يصدر مصرف لبنان، كل أسبوعين، ميزانية موجزة تتضمن البنود الأساسية للموجودات والمطلوبات والتغيرات التي طرأت عليها. آخر ميزانية موجزة صدرت في 15 آذار الجاري، وتضمنت أمراً مفاجئاً. إذ انخفضت قيمة الموجودات/ المطلوبات بمقدار 21,2 مليار دولار، من 145,28 ملياراً إلى 124 ملياراً. حجم الخفض شكّل صدمة كبيرة للمتابعين. إذ كيف يمكن أن تنخفض ميزانية المصرف المركزي بأكثر من 38% من الناتج المحلي الإجمالي خلال أسبوعين؟ وكيف يمكن أن يحاول المصرف تمرير الأمر وكأنه خطوة عابرة من دون أي تفسير منطقي، تاركاً المجال للتأويل والتحليل؟ لا بل كيف يمكن أن تكون حسابات مصرف لبنان بهذا المستوى من انعدام الشفافية ومن سهولة التلاعب بها؟ ما الذي حصل فعلاً؟
بلغة المحاسبين والتقنيين، ما حصل كناية عن عملية «تصفية» لموجودات مقابل مطلوبات بالقيمة نفسها. جرت عملية «التصفية» على النحو الآتي: في بند الموجودات، انخفضت قيمة القروض التي يمنحها المصرف للقطاع المالي المحلّي (المصارف) من 36,8 مليار دولار إلى 15,2 ملياراً. وفي بند المطلوبات، انخفضت قيمة ودائع هذا القطاع لدى مصرف لبنان من 124,4 مليار دولار إلى 103,2 مليارات. عملية الشطب، أو التصفية، سببها أن الميزانية تتألف من شطرين متساويين: الموجودات والمطلوبات. وأي تغيير في بند من الشطر الأول يجب أن ينعكس في بنود الشطر الثاني للحفاظ على التوازن بينهما. والتغيير، سواء حصل عبر الزيادة أو الشطب، يجب أن يتضمن تسجيل كل العمليات التي يقوم بها المصرف، سواء كانت استحواذاً على أصول أو عمليات إقراض أو ودائع ورؤوس أموال أو طبع عملة أو سواها.
تشتري المصارف بالأموال التي اقترضتها من «المركزي» أدوات مالية صادرة عن المصرف نفسه بفائدة 12% (هيثم الموسوي)
ورغم أن قيمة الخفض هائلة وتوازي 38% من الناتج المحلي الإجمالي، فضلاً عن أنها تتعلق بميزانية المؤسسة الأكبر في لبنان والتي يوازي حجمها مرتين ونصف مرة الناتج المحلي الإجمالي، إلا أن «المركزي» لم يجد داعياً لتفسير سبب شطبه 21,2 مليار دولار من ميزانيته خلال أسبوعين، باستثناء إشارة مختصرة مفادها أن «الخفض يشمل القروض والودائع المرتبطة بها».
وبمعزل عمّا إذا كانت خطوة الخفض صحيحة أو خاطئة، فإنها خلقت إرباكاً في السوق. إذ كان يفترض أن تكون ضخامة الخفض في مؤسسة معنية بالحفاظ على تثبيت سعر صرف الليرة مقابل الدولار، موجباً لمزيد من الشفافية والإفصاح وتفسير التغيير الحاصل وأسبابه ونتائجه. لكن العملية أثارت الكثير من التساؤلات؛ فهل كان المبلغ المشطوب عبارة عن ورم في ميزانية مصرف لبنان؟ أم أنه له صلة بالوضع النقدي والمالي المتدهور؟ وهل هناك أي قراءة لما حصل من زاوية الوضع النقدي وقدرة مصرف لبنان على الصمود في وجه الأزمات؟
إزاء انعدام الشفافية، برز أكثر من سيناريو لما يجري. خبراء ومصرفيون تحدّثوا عن عملية «تجميل محاسبية» تنطوي على نقل مبلغ 21,2 مليار دولار من ميزانية المصرف إلى ما يسمّى «خارج الميزانية»، ما يعني أن العبء الناتج من هذه المبالغ (الفوائد التي يدفعها «المركزي» للمصارف) لا يزال سارياً، لكنه لن يظهر في الميزانية الموجزة، بل فقط في حساب الأرباح والخسائر التي لا ينشرها مصرف لبنان أصلاً.
في المقابل، هناك من يعتقد أن «المركزي» قام بالتصفية بعد عملية «إعادة هيكلة» مع المصارف، أي أنه شطب ودائع المصارف لديه مقابل قروض منحها لها، وتخلّص من عبء الفرق في الفائدة بين القروض والودائع، وبالتالي سيتوقف عن تسجيل خسائر في ميزانيته بسبب هذه العمليات المكلفة جداً (تشير التقديرات إلى أن كلفتها السنوية تفوق 1,3 مليار دولار يدفعها المركزي من ميزانيته كأرباح للمصارف).
ترجّح مصادر مطلعة أن ما حصل فعلياً هو السيناريو الأول «لأن قيمة الفوائد الناتجة من هذه المبالغ تشكّل نحو نصف أرباح المصارف، وهذا أمر لا يمكن إخفاؤه في هذا الوقت بالتحديد، بل كان سيثير ضجّة كبيرة». وتعزو هذه العملية الى رغبة المصرف المركزي في التخلّص من الانتقادات التي وجهها صندوق النقد الدولي إليه طوال السنوات الماضية، بسبب تضخّم ميزانيته نتيجة العمليات غير التقليدية المتواصلة، أي الهندسات المالية. فالصندوق كان يرى أن هذه الهندسات تتحوّل إلى ورم في ميزانية مصرف لبنان يوحي بأن المصارف على وشك الإفلاس. وكدليل على ذلك، فقد بلغ حجم القروض التي منحها مصرف لبنان للمصارف 36,8 مليار دولار في نهاية شباط 2019، وهو رقم يفوق قيمة الأموال الخاصة الأساسية للمصارف اللبنانية. أي إن المصارف اقترضت من مصرف لبنان ما يفوق رساميلها! كذلك بلغت ودائع المصارف لدى مصرف لبنان 124,3 مليار دولار، أي أنه بات كبيراً جداً ويوازي 65,5% من مجموع الودائع في القطاع المصرفي.
يأخذ صندوق النقد في الاعتبار أن هذا الورم ناتج من تنفيذ الهندسات التي انطوت على الآتي: يستقبل مصرف لبنان ودائع بالدولار من المصارف ويوظّفها بفائدة تراوح بين 5% و7%. في المقابل، تحصل المصارف على قروض من مصرف لبنان بالليرة توازي 125% من المبالغ التي أودعتها لديه وبفائدة 2%. وفي الوقت نفسه تشتري بقيمة هذه المبالغ أدوات مالية صادرة عن المصرف المركزي بفائدة 12%. في المحصلة، تحقق المصارف أرباحاً من فرق الفائدة بما يعادل 17% مع بعض الفروقات الهامشية. وبنتيجة هذه العملية، كان مصرف لبنان يخلق أو يطبع كميات كبيرة من الليرة باستمرار لتمويل هذه العمليات. لكن المشكلة كانت في طريقة تسجيل هذه العمليات. ففيما كان يجب أن يقوم مصرف لبنان بمقاصّة (تصفية) بين ودائع المصارف وتوظيفاتها لديه وبين القروض التي منحها للمصارف، كان يجري تسجيل الرقم نفسه مرتين في الميزانية. مرّة في الموجودات، ومرّة في المطلوبات. هكذا بلغت قيمة المبالغ الصافية التي طبعها «المركزي» لتمويل هذه العمليات نحو 21 مليار دولار (ليس بالضرورة أن يشمل الرقم كل العمليات التي نفذها مع المصارف خلال السنوات الماضية، لكنه الجزء الأكبر). وهذا المبلغ لا يتضمن «الناتج» من الهندسة، أي ما نسبته 25% من قيمة المبالغ المقترضة والمقدّرة بنحو 5,3 مليارات دولار. كما لا يتضمن صافي الفرق بين فائدة توظيفات المصارف لدى مصرف لبنان وقروضها منه، والذي يبلغ في المتوسط 8%، أي ما يعادل 1,3 مليار دولار.
هذه ليست المرة الأولى التي ينكشف فيها وجود «ألاعيب محاسبية» في حسابات مصرف لبنان. فمنذ فترة جرى التلاعب، خلافاً لكل المعايير، بميزان المدفوعات الذي بات يتضمن سندات الخزينة «يوروبوندز». وكان سلامة قد قدّم ورقة إلى رئيس الجمهورية فيها مؤشرات عن الوضع المالي والمصرفي، لا تشبه الأرقام التي ينشرها مصرف لبنان ولا تلك الموجودة لدى جمعية المصارف. وبحسب المطلعين، ثمة تاريخ من الألاعيب المحاسبية وغيرها، ما يثير الريبة في صحة حسابات المصرف وفي شفافيته المزعومة التي لا يمكن تصحيحها بجرّة قلم عبر الإيعاز إلى مديرية المحاسبة بإجراء المقاصة أو التصفية لتقليص حجم الميزانية. والشبهة أن تكون هذه المرّة واحدة من المرات التي انكشفت فيها هذه الألاعيب في مؤسسة ناظمة ورقابية للقطاع المالي في لبنان.
المصدر: الأخبار