جوني منيّر – الجمهورية
لم تحدث مفاجأة مع ظهور نتائج الانتخابات النصفية الأميركية. فلقد نجا الرئيس الأميركي دونالد ترامب على رغم الفوز الذي حقّقه الحزب الديموقراطي في مجلس النواب.
ومنذ إعلان ترامب عزمَه على خوض الانتخابات الرئاسية الأميركية والمفاجآت تتوالى والأعراف تُكسر، هو جاء من خارج الاصول السياسية المتّبعة، وانتشرت حوله الفضائح التي كانت تكفي واحدة منها للاطاحة بغيره، وعلى رغم ذلك فاز في الانتخابات الرئاسية.
وبدلاً من أن «تدجّنه» المؤسسات التي تشكّل مركز القرار الاميركي، أطاح برموزها وبدّل عدداً من رجال إدارته مرة ومرتين حتى إنه أخضع الحزب الجمهوري لنفوذه بنسبة 80% بعد أن كانت هذه النسبة معارضة له مع انطلاق ولايته. هو وقف محاضراً في ملف تحقيقات التخابر مع روسيا وتلاعبها في مسار الانتخابات الرئاسية، ولذلك كانت الانتخابات النصفية مهمّة جداً لديه.
ففي العادة كان حزب الرئيس يخسر الغالبية في الكونغرس الذي يضمّ مجلسَي النواب والشيوخ. وترامب يدرك أنه في حال تكرار ذلك فهذا يعني أنه سيصبح في موقف دفاعي أمام اكثرية من الكونغرس ستعمل على عزله استناداً الى تحقيقات المحقق روبرت مولر.
لذلك انغمس ترامب حتى النهاية في انتخابات مصيرية له ولسياسته عموماً. وقد عبّر عن ذلك بوضوح بأنّ هذه الانتخابات هي بمثابة الاستفتاء على سياسته.
عادة تكون الانتخابات النصفية باهتة وباردة، ولكنها هذه المرة كانت الأكبر والأكثر حماوةً منذ العام 1929.
الإقبال كان كثيفاً والكلفة فاقت الخمسة مليارات دولار اميركي وهو رقم قياسي في تاريخ انتخابات الكونغرس.
في انتخابات التجديد النصفي التي جرت أيام باراك أوباما اكتسح الجمهوريون منافسيهم الديموقراطيين. أما اليوم فإنّ حملات التعبئة والتي أثمرت تحريك الناخبين وشدّ عصبهم، فطاولت الملفات الحسّاسة مثلاً، ركّز الجمهوريون على تخويف الأميركيين من ضياع الهوية الأميركية بسبب المهاجرين. واندفع ترامب في تركيز الأضواء الإعلامية على القافلة القادمة من أميركا الجنوبية وحرّك الجيش في خطوة نادرة، ونشره عند الحدود مع المكسيك وهو يدرك أنّ مجرد تحريك الجيش هذا يؤدي الى رفع مستوى الخوف والقلق وإعطائه طابع الجدّية والخطورة.
لكنّ الانتخابات النصفية التي منحت ترامب بطاقة النجاة لا تعني أنها فتحت الباب واسعاً امام معركة التجديد له بعد سنتين. فالمؤشرات ليست كلها إيجابية. مثلاً، فإنّ النساء البيض اللواتي تلقّين تعليماً جامعياً إنحزن للديموقراطيين بنسبة 61% مقابل 33% للجمهوريين. وترامب يعوّل على هذه البيئة.
والتمعّن في انتصار مجلس الشيوخ يشير الى أنّ ثلث المقاعد التي جرى التنافس عليها هي من الدوائر المحافظة والتي يغلب عليها تأثير البيض المتشدّدين، ما يعني أنّ نتائجها معروفة حتى قبل البدء بالحملات الانتخابية.
ومع سيطرة الديموقراطيين على مجلس النواب فلا بد من توقّع فتح تحقيقات في شأن أعمال ترامب التجارية وعائدات الضرائب وتحريك ملف تحقيقات مولر. لكنّ هذه القرارات ستصطدم بالعجز عن نيل غالبية الثلثين في مجلس الشيوخ، لا بل العجز عن نيل غالبية النصف ويدرك ترامب انّ إحدى اقوى أوراقه التي يضعها على الطاولة هي النجاح الاقتصادي والنموّ الكبير الذي حققه، ما يعني أنه سيستمرّ في خطته الاقتصادية والتي لأحد جوانبها علاقة «بشفط» ثروات الدول الخليجية وضخّها في الاسواق الاميركية.
مبدئياً من المتوقع أن يندفع ترامب في سياسته الشرق-أوسطية بقوة لاستباق الوقت وكسب اوراق سياسية يستطيع استخدامها في معركة تجديد الولاية والتي ستكون صعبة على الارجح. وهو يريد هذه الاوراق قبل أن يغرق في الحملات الانتخابية. يريد أولاً إرغام إيران على الجلوس الى طاولة المفاوضات وإنجاز اتّفاق كامل معها حول النفوذ والمصالح السياسية لكلا الطرفين في المنطقة. وهو ما سيدفعه الى التشدّد اكثر كون الوقت لا يسمح. لكنه سيحاذر أن يؤدّي تشدده لقطع خطوط التواصل بالكامل.
وتبدو إدارة ترامب متفائلة بأنّ الجلوس مع إيران لم يعد بعيداً، وأنّ تفاهماً ما سيحصل، وقد يجري نسج كل ذلك بعيداً من الاعلام. وسيندفع ترامب في سوريا، حيث تحرّكت تركيا التي تملك الورقة الاقوى في إدلب وبات الكلام حول التضحية بالأكراد اقرب الى منطق الصفقات الدولية.
ولأنّ الملف السوري أمام تطوّرات حاسمة ألغى الرئيس الروسي لقاءً كان مقرّراً مع رئيس الحكومة الإسرائيلية في باريس على هامش إحتفالات مئوية انتهاء الحرب العالمية الاولى. ذلك أنّ بوتين الذي ما يزال يقفل السماء في سوريا امام الطائرات الاسرائيلية لن يغامر بأيّ تعديل حول «الستاتيكو» الحالي قبل تبيان الافكار الاميركية التي ستطرح خصوصاً وأنّ السعي قائم لتحقيق فكرة انشاء «ناتو عربي»، حيث قرأ كثيرون في مناورات «درع العرب» الجارية في مصر مقدّمةً ميدانية لـ«الناتو» العربي. واللافت أنّ لبنان والمغرب يشاركان في المناورات ولكن بصفة مراقب.
وفي خطٍّ موازٍ سيندفع ترامب في اتّجاه تحقيق تسوية نهائية بين إسرائيل والفلسطينيين ما سيفتح الباب امام «تشريع» التطبيع بين إسرائيل والدول العربية الى جانب منح إسرائيل قيادة هذه الجبهة لمواجهة إيران. وهي «وظيفة» تفتح الابواب امام إسرائيل «للارتزاق» مالياً كما للاندماج مع المحيط العربي بسرعة وسلاسة أكبر.
والزيارات الرسمية الإسرائيلية هي خطوات علنية متأخرة لمحادثات سرّية سبقت قبل سنوات كثيرة. فالمشاريع درست وتنتظر ساعة الصفر الإسرائيلية ـ الفلسطينية. كمثل مشروع إنشاء سكة حديد بين إسرائيل ودول الخليج.
ونُقِل عن نتنياهو قوله لمشرّعين في حزبه الليكود منذ ايام: «إنّ دولة قوية يمكنها احتلال اراضٍ ونقل سكان من دون عواقب»، وهي اشارة واضحة الى سيطرة إسرائيل على الضفة الغربية في ظلّ عدمِ اكتراثٍ عربي.
وفي الوقت نفسه سيندفع ترامب الى تعزيز تأثير واشنطن داخل السعودية مستفيداً من ملف اغتيال جمال خاشقجي، وذلك عبر إنشاء نظام تواصل جديد تتم من خلاله مناقشة القرارات التي تؤثر على علاقات البلدين قبل اتّخاذ القرار. وعلى رغم وجود سفير اميركي مفوّض يتمتع بصلاحيات الاطّلاع الدائم، لكنّ المطلوب المناقشة الممنهَجة مع المسؤولين الرفيعي المستوى ما يغني عن المفاجآت.
ولفت في هذا المجال ما كتبه المفاوض الاميركي السابق والخبير في شؤون الشرق الاوسط السفير دينيس روس من «أنّ مقتل خاشقجي وتضارب الروايات السعودية حوله يتجاوز الحدود. ولا مفرّ من ارتدادها سلباً على المملكة». واضاف: «لا بدّ من دفع الثمن».
وإزاء كل هذه الصورة المتشابكة لا بد من فهم التعثر في ولادة الحكومة اللبنانية.
لم يُحسن اللبنانيون كعادتهم التقاط فرصة «حكومة العراق»، فأهدروها بدلعهم، لا بل جشعهم. الصورة اختلفت بعد قتل خاشقجي، وتعقّدت بعد الانتخابات الاميركية وبات من السذاجة بمكان إنجاز ولادة حكومية وفق معادلات ما قبل خاشقجي. المشكلة أنّ المسؤولين اللبنانيين يقاربون التأليف من زاوية مصالحهم الضيّقة وحسابات الاستحقاق الرئاسي المقبل. فيما الحقيقة أنّ المنطقة كلها تتغيّر وتتبدّل.