كلير شكر – الجمهورية
خضعت «القوات اللبنانية» لإرادة تحجيمها. أو بالأحرى كسرِها. أقلّه هكذا صوّر مسار الأحداث والتطورات. اللافت أنّها شاركت بنفسها في كتابة النهاية «التراجيدية» للمسلسل.
إعتقدت «القوات» أنّ تكبير حجم الطلبات لرفع سقفها بغية تحصيل أكبر مقدار من الإمتيازات الوزارية مدعومة بالنتائج التي حققتها صناديق الإقتراع، سيعزّز شأنها وخطابها أمام الرأي العام، لأنّها ستستثمر تنازلاتها عبر تصوير نفسها الطرف المسهّل والقادر على تقديم التضحيات في سبيل تأليف الحكومة.
لكن الخط الإشتباكي الذي سلكه «التيّار الوطني الحرّ» غيّر الوجهة تماماً. بدا أنّ لا تراجع عن قرار محاصرة «القوات» وإحراجها، إلى حدّ إخراجها اذا أمكن. فاختلطت الأمور وتداخلت المشاهد بعضها ببعض، الى حدّ تحّول لعبة المظلومية التي أرادتها معراب، قبولاً مُكرهاً لقواعد المحاصرة، لا بل «انحناءً» لها. فارتضت بما رُسم لها من دون أن تتمكن من الصمود أكثر أمام المتغيّرات.
طوال خمسة أشهر خاضت «القوات» لعبة الأوزان والأعداد لترفع من سقف طموحاتها إلى حدوده القصوى، وإذ بها تدفع ثمن تصعيدها وطلبها «العلا». بين ليلة وضحاها إنقلب السحر على الساحر. لم يعد حرص حليفها رئيس الحكومة سعد الحريري على مشاركتها في الحكومة «شيكاً على بياض». صار مشروطاً بإصراره على ولادة حكومته مهما كلّف الأمر. صارت الكلفة من جيب «القوات» لا غيرها.
وفق المطلعين، فإنّ الحريري لم يتخلّ عن «القوات»، لأنّه منذ اليوم الأول لتكليفه وهو يحتسبها على قاعدة تخصيصها بأربعة وزراء لا أكثر. أما الحقائب فتحمل الأخذ والرد. لكنه بلا شك، حشرها في زاوية اللحظة الأخيرة.
الثمن دفعته «القوات» حين ضخّمت حملة مطالبها، ما أدّى الى محاصرتها في مربّع المفاضلة بين ما صوّرته على أنّه «فتات» الحقائب، وبين البقاء خارج الحكومة.
وحين حُصرت الخيارات بين السيئ والأسوأ، فضّلت «القوات» الأقل ضرراً. غلّبت منطق المشاركة، ولو على مضض، على منطق المعارضة من الخارج. قبلت بالعرض الأخير: نيابة رئيس الحكومة، وحقائب «العمل» و«الشؤون الاجتماعية» و«الثقافة».
حرص رئيس الحزب سمير جعجع على إعلان القرار بنفسه. كان مقتضباً جداً. يُدرك جيداً أنّ ما سيدلي به مفصليّ، وأنّ جمهوره، وقبله الجمهور المحايد، سيقيسها بمنطق الإنتصار والانكسار. هكذا تتعامل القوى السياسية، جميعها بلا استثناء، مع المحطات السياسية والانتخابية، وهي التي لقّنت الناس لغة «التقريش» ومفرداته.
وعلى رغم من كل هذا، نجحت «القوات» في استقطاب الانتباه والسؤال عن موقعها الحكومي: هل تصمد في وجه رياح «مقتل خاشقجي» التي هبّت من حولها أم تتراجع إلى الوراء؟ هل تحتسبها بعدد المقاعد الوزارية وبوزن كل واحد منها أم بعدد الأشهر والسنوات التي ستقضيها الحكومة على كراسي السلطة؟
تعرف «القوات» جيداً أنّ كارهيها يتخطون تأثيراً مؤيّديها. وتُدرك جيداً مدى كلفة التفرّج من مقاعد المعارضة على سلطة تنفيذية سيُقدّر لها أن تصرف المليارات من الدولارات إذا أحسنت التفاهم.
قد «يودّي» الصوت في «برّية المعارضة» لكنّه لن يكون بالقوّة نفسها لـ«الفعل» من «حنفيات الخدمات». المعادلة صعبة جداً، والرهان على محاصرة العهد من خلف متاريس المعارضة يحمل كثيراً من المخاطرة والمجازفة. وقد أثبت جعجع أنّه ليس في وارد قيادة مجازفة خطرة.
في المقابل، تعرف «القوات» مقامها فحاولت استثمار «أدوات» الغنج والدلال والدلع: لا تقاس حيثيتها بعدد مريديها وثقل حضورهم، ولا يحلّ لغز مشاركتها أم اقصائها، بالخشية من عصا اعتراضها وخروجها من الحكم، ابداً. وإنما بجدوى جلوسها على طاولة واحدة مع فريق سياسي تزداد يوماً بعد يوم رزمة العقوبات المالية التي تأتيه من خلف المحيطات.
على طاولتها الداخلية، فلشت معراب «وزنات» التقدّم الشعبي الذي حققته في الانتخابات النيابية وشغّلت آلاتها الحاسبة: هل تخاطر بما جنته يداها وتعرّضه لأيدي «التناتش»؟ أم ترضى بـ«النصيب» الذي قسّمه لها الحلفاء قبل الخصوم؟
ولكن، بمعزل عن النتيجة التي بلغتها مفاوضات الخمسة أشهر، بطلعاتها ونزلاتها، نجحت معراب حيث فشلت الكتائب مثلاً. بقيت خارج جنّة السنوات الأربع من دون أن تتمكن من استقطاب عطف استبعادها، تحت عنوان معيار التمثيل الحكومي، حتى لو ادّعت عكس ذلك. لا من يسأل أو يطمئن إلى وضع الصيفي بعد «نكسة» صناديق الإقتراع، ولا من يهتم إلى مستقبل الحزب العتيق.
الأهم من ذلك، أنّ الانكسار المعنوي الذي تكبّدته «القوات» من «معجن» الانتصار الذي حقتته في الانتخابات النيابية، لا يُجيّر «ربحاً» لمصلحة خصومها، وتحديداً «التيّار الوطني الحرّ». فالأخير لم يتمكن أيضاً من تحقيق «بنك الأهداف» التي وضعها لحظة إنطلاق ورشة التأليف: لا ثلث معطل، ولا إخراج لـ«القوات» من الحكومة، ولا حقيبة «الأشغال».