دافيد عيسى
حتى في عزّ أيام الحرب والمحنة لم يبلغ اللبنانيون هذا الحد من القرف والإحباط واليأس فقد ضاقوا ذرعاً بالممارسات والطريقة التي تدار بها الأمور وتنم عن فوقية وازدراء حيناً، وعن تقصير واستخفاف أحياناً أخرى، وعن أخطاء في التصرف والتقدير في كل الأحوال، ونشأت بين الناس والسياسيين هوّة سحيقة تزداد اتساعاً يوماً بعد يوم.
فالناس في وادٍ والسياسيون في وادٍ آخر، ما يريده الناس ويطلبونه ويتطلعون إليه ليس في حسابات المسؤولين، وما يقوله السياسيون لا يهم الناس ولا يعنيهم بشيء… صرخة الناس بسيطة ومتواضعة، وهم يطالبون بأبسط حقوقهم أي الماء والكهرباء التي بتنا “نحلف بغربتهما”، إضافة إلى الطبابة والدواء والتعليم.
إذا كنتم أيها السادة المتربعون في “جنة الحكم” لا تعلمون بأحوال الناس وكيف يفكرون وماذا يقولون هذه الأيام فهذه مصيبة، وإذا كنتم تعلمون ولا تكترثون ولا يهمكم الأمر و”مش فارقة معكم” فالمصيبة أعظم.
هل تعلمون أيها السادة أنّ الناس باتوا في الحضيض والقعر و”على الأرض يا حكام” وأنّهم لامسوا في أكثريتهم عتبة الفقر والعوز وأنّ الطبقة الوسطى تتقلّص وتتلاشى وبالكاد تؤمّن أساسيات الحياة.
هل تعلمون أيّها السادة أنّ الجيل الجديد، جيل الشباب وخريجي الجامعات، لا يجد فرص عمل في بلاده ولا يرى إمكانية لتحقيق طموحه فيُقبل مضطراً على الهجرة إلى الخارج وينتهي بنا الأمر إلى تصدير الكفاءات الشابة وخسارة ما لا يعوّض.
هل تعلمون أيّها السادة أنّ موجة جديدة من الهجرة تدق الأبواب وهذه المرّة ليس بسبب حروب وكوارث، وإنما بسبب فقدان الثقة بكل شيء تقريباً، بالدولة والسياسيّين، وأخطر ما في الأمر أنّ الثقة فُقِدَت بالمستقبل وبإمكانيّة أنْ يكون هناك إصلاح في البلد وتغيير ما فيه من فساد وتسيّب وفوضى و”قلّة أخلاق”.
هل تعلمون يا سادة، يا أيها السياسيون والمسؤولون، أنّ الناس سئموا من مناوراتكم والاعيبكم وما عادوا يصدقون شيئاً مما تقولونه وما عدتم قادرين على خداعهم وتضليلهم، وهل تعلمون أنهم ملوا انتظار الحكومة الموعودة التي تدور منذ أشهر في حلقة مفرغة ويجري إغراقها في سجالات ومتاهات وعقد مفتعلة ويُضرب كل يوم موعد لولادتها، وتشهد تناتشاً للحصص والحقائب… تناتشاً من أجل مصالحكم ومصالح أزلامكم، لا من أجل مصالح الناس.
الناس مستاؤون غاضبون من الطريقة التي يتم بها تشكيل الحكومة، ولا يتوسّمون فيها خيراً، يسألون وليس هناك من مجيب: هل أصبح الصراع صراعاً على الحقائب والمراكز في حين يجب أن يكون الصراع على الخدمة العامة والقيم والمبادئ؟!
هل أضحت المواقع والوزارات هي الهدف فيما يجب أنْ تكون مجرّد وسيلة وأن يكون الإنسان هو الهدف الأسمى؟ بأي منطق يجري تصنيف الوزارات سيادية وأساسية وخدماتية دسمة أو عاديّة، وبأي حق ومنطق قانوني ونص دستوري يتم حجز وزارات لأحزاب وقوى سياسيّة ووضع اليد عليها ويتم تغييب حقوق الطوائف وتوازناتها؟! ولماذا حجب الوزارات السياديّة عن طوائف أساسيّة في لبنان مثل الروم الكاثوليك والدروز وغيرهما؟! وهل أصبحت هناك طوائف درجة اولى وطوائف درجة ثانية؟ ولماذا هذا الإجحاف المزمن بحقوق الأقلّيات المسيحيّة الممنوعة من دخول الحكومات.
هل تعلمون أيها السادة أنّ الناس ما عادوا يعوّلون على الحكومة الجديدة وما عادوا يبنون الآمال عليها، وهم يرون بأم العين كيف تشكل ووفق أي معايير وأسس ومن ضمن أي مناخات وأجواء… فكيف لهذه الحكومة أن تكون منسجمة ومتعاونة ومنتجة… وكيف يمكن ان تكون حكومة وحدة وطنية؟
خوفي وأقولها بكل أسف أن تكون هذه الحكومة حكومة “خلاف وطني”، وتنتقل المتاريس السياسيّة إلى داخلها وتنشأ خطوط تماس في الحكم والدولة وتكون هذه الحكومة عرضة للسقوط عند أول اختبار وتحدٍّ…
ليس المهم أنْ نشكّل الحكومة، ولم يعد تشكيلها إذا حصل، وهو سيحصل عاجلاً أم آجلاً خبراً ساراً ومفرحاً بعدما استنفدت قوّة الدفع فيها حتى قبل أنْ تولد، وبعدما أغرقت في مشادات وخلافات… المهم هو أن تكون الحكومة مؤهلة لإدارة الأوضاع والأزمات والملفات المكدسة وقادرة على اتخاذ القرارات وتنفيذها… الناس يريدون حكومة تدير الأزمات وتوجِد الحلول لها، ولا يريدون حكومة في حد ذاتها أزمة ومولّدة للمشاكل وتشلها الخلافات والانقسامات.
الناس متلهفون لرؤية دولة حديثة متطوّرة تحترم الكرامة الإنسانيّة وتؤمّن العدالة الاجتماعية، وتوّاقون إلى دورة حياة طبيعيّة في الاقتصاد والسياسة وإلى محاربة فعليّة للفساد المتغلغل في المؤسّسات والذهنيّات وأصبح أسلوب حكم ونهج حياة…
ألا أيها السادة، أسرعوا وبادروا قبل فوات الأوان واستنفاد ما تبقى من “فترة سماح”… كفّوا عن الصراخ والمشادات بشأن الحقائب، أنبذوا الخلافات التي تدور حول سخافات وقشور ولا تنفذ إلى أعماق الأمور وجوهرها… احترموا كلامكم واتفاقاتكم أوّلاً وعقول الناس ولا تستغبوهم أو تستخفوا بهم، وبادروا في أسرع وقت ليس إلى تشكيل الحكومة، إذ لم يعد هذا الأمر إنجازاً ولا كافياً، وإنّما إلى إنقاذ ما تبقى من مصداقية لكم وما يحفظ لكم من “ماء الوجه” وإلى إنقاذ ما تبقى من ثقة بهذا الوطن ومستقبله وهذا هو الأهم، قبل أنْ ينفد صبر اللبناني ويستلهم “الثورة التي تُولد من رحم الاحزان”.