جعفر البكلي – الاخبار
«… صِبت رجله بالسيف، فطاح بالأرض. ولحقته بضربة عَرَقبته، قطعت راسه. ولحقته بضربة ثالثة بقلبه، فانشق صدره. واستانست [ابتهجت] كثير. وحبّيت [قبّلتُ] سيفي».
إنّ كاتب الفقرة -التي قرأتَها أعلاه- هو عبد العزيز آل سعود، والد الملك سلمان، وجدّ ولي العهد محمد. والفقرة جزء من رسالة كتبها مؤسس المملكة السعودية، في آذار/ مارس 1904، وأرسلها إلى حليفه مبارك الصباح شيخ الكويت. ورسالة ابن سعود ما زالت محفوظة في ملفات أرشيف وزارة الهند في لندن. وقد كشف النقاب عنها المؤرخ البريطاني روبرت ليسي في كتابه «المملكة» (الصفحة 35). ويسرد حاكم الرياض – بلذة وسرور- كيف قتل بيديه فتى من آل رشيد اسمه عبيد بن حمود، شاء حظه العاثر أن يقع أسيراً في قبضة السعوديين، لمّا شنّوا غارة على خيام أخيه ماجد آل رشيد، في منطقة حملان، في نجد. وأسفرت الغارة السعودية، بحسب مخطوط عبد العزيز، عن ذبح ثلاثمئة وسبعين رجلاً من قبيلة شمّر.
«ملكناها بالسيف الأملح»
إنّ إجهاز عبد العزيز بسيفه على فتى شمّري، كان ذنبه أنه وقع أسيراً في قبضته، ليس سابقة في تاريخ الأسرة السعودية الحاكمة. فمنذ اليوم الأول الذي استولى فيه آل سعود على مدينة الرياض، في 13 كانون الثاني/ يناير 1902، ارتكبوا مقتلة. ويروي روبرت ليسي، في كتابه «المملكة»، كيف بَقَرَ عبد الله بن جلوي (ابن عم الملك عبد العزيز، ونائبه في المنطقة الشرقية للسعودية) بطن غريمه عجلان العجلان، حاكم المدينة السابق، ثم انتزع من بطنه كليتيه، وقذفهما على سور قلعة المصمك (ليسي: ص 328). وكان ذلك الفعل افتتاحاً لعصر جديد دشّنه آل سعود، قوامه: الفتك، والاغتيال، وحز الرقاب. وإذاً، ليس غريباً أن تكون عبارة «ملكناها بالسيف الأملح» هي العبارة الدارجة على ألسنة الأمراء السعوديين. فهي تعني أن مُلكهم نالوه بحد السيف، فلا يشاركهم فيه، بعد ذلك، أحدٌ. والعبارة يسوقها هؤلاء بغطرسة، في معرض الردّ على الذين ينادون بمشاركة المواطنين السعوديين، ولو قليلاً، في صنع القرار في بلادهم. وأما جواب الأمراء على من ينصحهم بإصلاح نظام الحكم المطلق في المملكة، فيكون بهذه العبارة المتعجرفة: «آل سعود أبخص». أيْ: «آل سعود أدرى، وأكثر فهماً منكم».
ما زال السيف المسلول المسلط فوق رؤوس العباد، هو رمز سلطة آل سعود، ومصدر شرعيتهم، وشعارهم المرسوم فوق رايتهم الخضراء. وما زالت الأسرة الحاكمة تَسِمُ البلاد المملوكة وعبادها بوَسْمها، وتصبغ على الرعية هوية عجيبة مشتقة من اسم الرّعيان! بيد أنّ قصة السيف الأملح المتربص برقاب كل من خالف ولي الأمر أو عصاه، هي قصة سعودية قديمة، لم تبتدئ اليوم حينما تمكن الجلاد من رقبة جمال خاشقجي. فمنذ أن تولى عبد العزيز آل سعود الحُكم في بلاد نجد، في مطلع القرن العشرين، ابتدع بدعةَ تصفية المعارضين، وإبادتهم.
«انقل إلى أهل الصحراء كلها: كيف يطبق ابن سعود العدالة؟»
في سنة 1910، نال أبناءَ أسرة الهزاني عقابٌ سعودي قضى بإفنائهم. وكانت أسرة الهزاني تحكم بلدة ليلى (مركز محافظة الأفلاج السعودية، حالياً، التي تبعد حوالى 300 كيلومتر جنوب الرياض). وأبى ساسة تلك العائلة الاستسلام لغزو ابن سعود لديارهم، فقاوموه إلى أن انهارت كل دفاعاتهم. وحينما سيطر السعوديون على المغلوبين، قضى عبد العزيز فيهم بحكمه: الإعدام بحدّ السيف. ويروي المؤرخ الفرنسي جاك بنوا ميشان في كتابه «عبد العزيز آل سعود: مولد مملكة» (ص: 106 ـ 107) قصّة الإعدام الجماعي للخصوم، كالتالي: «اقتحم عبد العزيز مضارب قبيلة العجمان واجتاح ديارهم، وأمر فرقتين من جنوده بتدمير قريتي القطين والحوطة، فمُحِيَتا. لقد قرّر ابن سعود عدم إبقاء حجر فيهما فوق حجر، ولا على أثر ينبئ بمكان. ثم مشى إلى مدينة ليلى فهاجمها، وتغلب على مقاومتها، وأرغم حاميتها على الاستسلام. وحكم بالإعدام على تسعة عشر شخصاً من عائلة الهزاني شكّلوا نواة المقاومة. لكن ابن سعود أجّل تنفيذ أحكام الإعدام لمدة أربع وعشرين ساعة، ليوفد الرسل إلى مختلف الأقاليم القريبة كي يدعوا الناس إلى الحضور إلى ليلى، فيشهدوا إنزال العقاب بالمجرمين. وأمر ابن سعود بإقامة منصة مكشوفة أمام المدينة، خارج الأسوار، حيث تتجمع القوافل عادة. واحتشد، عند الفجر، سكان المدينة والقرى المجاورة وعدد كبير من البدو، وأحاطوا بالمنصة من جوانبها الثلاثة. واصطف الحرس النجدي في الجانب الرابع أمام المنصة. ووصل ابن سعود، فاجتاز الساحة وسط صمت رهيب. صعد إلى المنصة، وكانت قامته المديدة، والغضب الشديد المرتسم في تقاطيع وجهه، يثيران الرعب في النفوس.
ثم فتحت البوّابة، واقتيد المحكومون مكبّلين بالأصفاد، وأرغِموا على الجثوّ أمام الجمهور. وأومأ ابن سعود بيده مشيراً إلى الجلاد، فبرز في الساحة زنجي عملاق عاري الصدر بيده السيف وخلفه مساعداه، ووقف على رأس صف المحكومين. ثم تلا أحد الفقهاء نص حكم الإعدام، وعدّد الأسباب التي أوجبت موت المتمردين. بعد ذلك، مضى الجلاد يمارس مهمته في قطع رؤوس الأسرى، واحداً تلو الآخر. ثماني عشرة ضربة فاصلة، وثمانية عشر رأساً تدحرجت فوق الرمال. فلما تقدم المحكوم التاسع عشر إلى مصيره، أشار الملك إلى السياف، وأمره بالابتعاد. ثم خاطب الرجل الجاثي أمامه، قائلاً: «إنني أعفو عنك. اذهب فأنت حرّ. وحدّث في كل مكان بما شهدت. وانقل إلى أهل الصحراء كلها كيف يطبق ابن سعود العدالة». وبعدما انتهت الإعدامات، خطا ملك نجد إلى مقدمة المنصة وخاطب الجمهور موضحاً الجريمة التي ارتكبها العصاة، والعقاب الرهيب الذي سيتعرض له كل من يحذو حذوهم.
كانت أسرة الهزاني هي أول عائلة سياسية نجدية يقطف السيف السعودي رقاب أبنائها، بسبب معارضتها. وبعد «الهزازنة» كرّت السبحة، فمُحِق مناوئون كثرٌ لابن سعود: آل رشيد حكام حائل، آل عائض حكام عسير، الأدارسة حكام جيزان، الهاشميون حكام الحجاز، آل الدويش زعماء مطير، ابن بجاد زعيم عتيبة، ابن حثلين زعيم العجمان… ولم يهدأ السيف أبداً، منذ اليوم الذي تسلم فيه آل سعود رقاب الناس. أعمله السعوديون في أعناق أهل الطائف، وفي أعناق أهل حائل، وفي أعناق أهل عنيزة، وفي أعناق أهل الأحساء، وفي أعناق أهل الكويت، وفي أعناق أهل مطير، وفي أعناق أهل الهجرات، وفي أعناق أهل اليمن، وفي أعناق أهل الحجاز، وفي أعناق أهل الشام، وفي أعناق أهل العراق، وفي أعناق الشيعة، وفي أعناق أهل السنة، وفي أعناق العرب، وفي أعناق العجم…