يحيى دبوق – الاخبار
في التقدير الأولي لإعلان روسيا تزويد دمشق منظومة «اس ٣٠٠»، وغيرها من المنظومات الدفاعية الحمائية، تأكيد لحدة الكباش الروسي ــ الإسرائيلي، ولوصول التفاوض السياسي غير المعلن بين الجانبين إلى حدّ التأزم، الأمر الذي استدعى من موسكو زيادة مستوى الضغط على تل أبيب. لكن هل الإعلان الروسي يهدف فعلاً إلى الضغط على إسرائيل، أم أنه أيضاً والى جانبه، يعمل على مواجهة تهديدات أوسع وأشمل من تهديدات تل أبيب وضرباتها؟
انطلاقاً من مروحة المصالح الروسية الأوسع في سوريا، يمكن الإشارة إلى مقاصد تزيد عن استهداف إسرائيل وتقييد هامش مناورتها كردّ على إسقاط الطائرة الروسية، لتصل إلى حد استغلال الفرصة المتاحة، وإن بالنتيجة، للتضييق على الخيارات العسكرية العدائية لأعداء روسيا وخصومها، و/ أو الدولة السورية. الاحتمالان واردان، وليسا متعارضين، ويأتيان أيضاً في التساوق في ما بينهما.
مع ذلك، قد تعترض القرار الروسي فرضيات نظرية حول إمكاناته الفعلية، وهل هو صادر لينفذ أم مجرد ضغط لتحقيق أهداف. الإعلان عن قرار التزويد إجراء قد يكون مستقلاً عن الإجراء اللاحق له، وهو التسليم. يعني ذلك أن المنظومة قد تصل أو لا تصل نظرياً، مع إمكان ربطها بمروحة من المؤثرات والدوافع وأيضاً الموانع، وقد تكون إسرائيل جزءاً منها، وكذلك أميركا وخصوم روسيا الآخرين.
في النظرة الابتدائية للوقائع والمعطيات، يبدو أن روسيا تضع إسرائيل أمام خيارين: إما الانصياع إلى الإرادة والشروط إزاء تضييق مناورتها العسكرية في سوريا بالتراضي، أو عبر المنع المادي والصدّ من خلال «اس ٣٠٠» وغيرها من الإجراءات والوسائل الحمائية المعلن عنها أمس. أيهما تختار إسرائيل؟ الواضح أن الضغط الروسي لا يمهلها وقتاً للاختيار، بعد أن ربطت خطوة «اس ٣٠٠» بأسبوعين فقط.
مع ذلك، وفي الموازاة، المعطى الجديد قد يكون من ناحية موسكو يتجاوز إسرائيل إلى دائرة التهديد الأوسع للمصالح الروسية في سوريا، بما يشمل مزيداً من الأعداء والخصوم، لمنع تهديداتهم الدورية للمكاسب الميدانية في سوريا، وكذلك في مواجهة أي استحقاق ميداني يخطط له لإنهاء الحرب على الجماعات المسلحة، وكان آخرها التهديد باستخدام القوة العسكرية، ضمن ذرائع متاحة، لمنع الحرب على الجماعات المسلحة في محافظة إدلب. تهديد جاء واضحاً ومباشراً من الجانب الأميركي، وكذلك من الجانب الغربي عموماً.
بالطبع لا تخطيط روسياً مسبقاً للفرصة المتاحة جراء إسقاط «ايل ٢٠»، لكن لا يوجد ما يمنع، بل يوجد ما يدفع موسكو إلى استغلال الحادثة إلى الحد الأقصى، والعمل بنتيجتها على تحقيق ما كان متعذراً قبلها في تعزيز القدرات الدفاعية السورية، درءاً أو عرقلة للتهديدات. إن كان الأمر كذلك، فهذا يعني جدية القرار الروسي في تسليم المنظومة فعلياً لسوريا بلا ارتباط كبير جداً بموقف إسرائيل وقرار إذعانها للشروط الروسية التي يتبيّن تعذّر إسرائيل أن تستجيب لها.
إن اتجهت موسكو إلى الدائرة الأوسع وعمدت إلى استغلال حادثة الطائرة وتحويل التهديد إلى فرصة كاملة، فتكون التقديرات الابتدائية لإسقاط الطائرة الروسية تواضعت جداً في توقعاتها بأن حصرت تداعياتها بإسرائيل. إن صحت الفرضية، فسيتحول الكباش من إسرائيلي روسي إلى أميركي روسي أيضاً، مع تهديدات أميركية باللجوء إلى إجراءات متطرفة ضد المنظومة نفسها للحؤول دون تسليمها، وهو ما لمّح وسارع إليه أمس، مستشار الأمن القومي، جون بولتون، في التأكيد أن تسليم المنظومة إلى سوريا يعدّ «تصعيداً خطيراً».
تصريحات وزير الدفاع الروسي، سيرغي شويغو، والبيان اللاحق الصادر عن الكرملين، إضافة إلى الاتصال بين بوتين والرئيس بشار الأسد، وكذلك مهاتفة رئيس حكومة العدو بنيامين نتنياهو التي أكد بوتين فيها مسؤولية إسرائيل في إسقاط الطائرة، هي جزء من تظهير وتأكيد على جدية روسيا وحزمها حيال هذه المسألة. من الصعب، على هذه الخلفية، أن يكون الحراك الروسي مخصصاً فقط للضغط على إسرائيل بهدف تليين مواقفها حول «الأمان العسكري» للجنود الروس، وإن كانت هي كذلك من ضمن استهدافاته.
لكن من أجل الضغط على إسرائيل كان بإمكان الجانب الروسي اللجوء إلى التهديد بتسليم المنظومة وغيرها من الإجراءات، إلى التسريبات أو تقارير عن مصادر روسية مطلعة ومسؤولة، وهي التي يلجأ إليها الأطراف في العادة لأغراض الضغط مع إمكانية التراجع عنها لاحقاً من دون تبعات، في حال استجابة الطرف الآخر للضغوط. تبدو روسيا في تصريحاتها ومواقفها وبياناتها، وكذلك أفعالها وإجراءاتها، كمن ألزم نفسه بتسليم المنظومة وأكثر منها، وأن قرارها لا رجعة فيه، ومن دون ترك هامش لإمكانات التراجع لاحقاً. كل هذا، فضلاً عن الصدقية والمكانة الروسيتين، إذ سيتعامل خصومها مع تراجعها باعتباره ضعفاً أمام ضغوط لا يبعد أن تفعّل بقوة في الايام القليلة المقبلة، تجاه القرارات الحمائية الروسية.
كيفما اتجهت الامور، القدر المتيقّن أن الضرر وقع بالفعل على إسرائيل، على خلاف التقديرات الابتدائية التي أوحت بها التصريحات والمواقف الروسية، وفي مقدمتها موقف بوتين قبل أيام. واضح أن تغييراً طرأ على الموقف الروسي في استغلال الحادثة إلى أقصى ما يمكن. وربما أيضاً، لم يعد بإمكان إسرائيل ومساعيها من وراء الأبواب المغلقة تخفيف حدة الضرر وتأثيراته. بل لا يبعد أنه بعد التغيير في الموقف الروسي، أن موسكو قررت، وعلى إسرائيل الالتزام بالخيارين معاً: تعزيز قدرات الجيش السوري الدفاعية في وجه تهديداتها، وغيرها؛ وتقييد هامش مناورتها الفعلية في الساحة السورية عبر إجراءات وقيود عسكرية تمنع إسرائيل من تفعيل إمكاناتها العسكرية أو الحد الكبير منها.
هل تحقق روسيا أهدافها؟ الواقع أن قدراً من اللايقين يكتنف الإجابة، رغم ما تبديه موسكو من جدية وحزم ظاهرين. الإجابة عن السؤال، بعد قرار تزويد سوريا بـ«أس 300» وغيرها من الوسائل الحمائية الأكثر تطوراً، لم تعد مقتصرة فقط على قراءة الموقف الإسرائيلي وردود فعله، بل يتعلق كذلك بمكونات المحور المقابل، بما فيه إسرائيل وحلفاؤها، والولايات المتحدة في مقدمتهم.
في ذلك، بدا واضحاً حرص موسكو على تأكيد الموقف الدفاعي للمنظومات المنوي تزويد سوريا بها، باعتبارها خطوة دفاعية لا تهدف إلى التموضع الهجومي للدولة السورية. واضح في التقدير، وكذلك في معطيات ووظيفة وإمكانات هذه المنظومات الحمائية، أن موسكو غير معنية بأن تستخدم سوريا هذه الأنظمة هجومياً وبما يؤدي إلى تأزيم الموقف في سوريا وجرّ أطراف إلى التدخل العسكري وإيذاء المصالح الروسية فيها. يفسر ذلك جملة التأكيدات التي وردت في المواقف والتصريحات الروسية أمس، والتشديد على المنحى الدفاعي والحمائي.
في المحصلة والنتيجة: نعم، التراجع الروسي غير منتف بالمطلق، لكن يستبعد أن لا تقدم روسيا على تزويد سوريا بالمنظومات الحمائية المعلن عنها؛ في الموازاة ،يقدّر أن تكون التداعيات سلبية جداً على الجانب الإسرائيلي، إن حصل ذلك، مع الحد من خيارات العدو وإمكاناته في الساحة السورية؛ يقدر إلحاق ضرر كبير أيضاً بكل مكونات المحور المعادي لسوريا، وتحديدا ما يتعلق بخياراته العدائية التي ستكون محفوفة بخطر أن لا تكون مجدية، بمجرد وجود هذه المنظومات والسيطرة عليها من قبل السوريين أنفسهم (وهو ما أكده سيرغي شويغو في تصريحه أمس، بالتشديد على أن الضباط السوريين مدربون على استخدام هذه المنظومات)؛ وجود المنظومات لدى سوريا، إن حصل بالفعل، يحقق أيضاً أهدافاً ردعية لا يمكن إغفالها في وجه عدوانية محتملة وقائمة ومهدّد بها، من جانب أعداء سوريا و/أو خصوم المزود الروسي.