مع صمود الوضع النقدّي أمام التحدّيات السياسية، لا ينفكّ الوضعين الإقتصادي والمالي يضغطان بثقلهما على الشق الإجتماعي خصوصًا مع تراجع المؤشرات الإقتصادية والتي تُنّذر بأزمة قد لا تكون بعيدة إذا ما إستمرّ تعطيل تشكيل الحكومة. وبالتالي، يُطرح سؤال أساسي عن الخطوات التي تسمح للبنان بالخروج من وضعه الحالي.
كل الأمر مرهون بعدد من الإصلاحات التي يتوجّب على السلطة السياسية إتخاذها لتغيير الوضع الحالي. هذه الإجراءات يُمكن اعتبارها بسيطة في الظاهر لكنها جوهرية وإشكالية في العمق.
فقد أشار تقرير «مؤشر التنافسية العالمية 2017-2018» الصادر عن المنتدى الاقتصادي العالمي أن لبنان يحتلّ المرتبة 105 على 137 دوّلة جرت فيها الدراسة.
وأهمية هذه الدراسة تنبع من منطلق أن القطاع الخاص هو خالق الثروات، وأن القطاع العام لا يُمكن أن يحلّ محل القطاع الخاص في الماكينة الإنتاجية. لذا يأتي هذا التقرير السنوي ليُظهر نقاط الضعف أو العوامل التي تُشكّل عائقًا أمام إزدهار بيئة عمل القطاع الخاص في البلد المعني.
وتنقسم هذه العوامل بحسب المُنتدى إلى ثلاث فئات أو مكونات : (1) القيود الأساسية والتي تتضمّن المؤسسات العامّة والخاصة، البنى التحتية، البيئة الماكرو إقتصادية، الصحة والتعليم الأساسي؛ (2) معززات الكفاءة والتي تتضمّن التعليم العالي والتدريب، فعالية كفاءة الأسواق، كفاءة سوق العمل، تطوّر الأسواق المالية، أفق القطاع التكنولوجي، وحجم السوق؛ و(3) الابتكار وعامل التطور والذي يتضمّن تطور بيئة الأعمال والإبتكار.
الإستمارة التي طالت 14,375 رجل أعمال في 148 بلدا، أظهرت العوامل التي تُشكل عائقًا أمام تطوّر بيئة الأعمال. وبالتحديد أظهرت الدراسة أن أكثر العوامل التي تُعيق الأعمال في في لبنان هي: عدم استقرار الحكومة (21.2%)، الفساد (14.5%)، البنى التحتية غير المؤاتية (13.9%)، البيروقراطية الحكومية غير الفعّالة (10.3%)، عدم استقرار السياسات (8.9%)، التضخم (5.5%)، نسبة الضرائب (4.5%)، أخلاقيات العمل السيئة في القوى العاملة اللبنانية (3.9%)، أنظمة العمل التقييدية (3.5%)، الحصول على التمويل (3.4%)، القوانين الضريبية (3.1%)، القوى العاملة المُتعلّمة غير الملائمة للسوق (2.2%)، القدرة غير الكافية على الابتكار (1.8%)، الجريمة والسرقة (1.3%)، نظام العملات الأجنبية (1.0%)، و ضعف الصحة العامة (0.8%).
اللافت في هذه النتيجة أن إستقرار الحكومة يأتي في المرتبة الأولى بين المعوقات وهذا بالطبع مردّه إلى التجاذبات السياسية التي حصلت في العام 2017 (الدراسة تمّت في العام 2017) بين أركان الحكم. وبما أن كل القرارات السياسية والإقتصادية والمالية مجموعة في يدّ الحكومة، فإن الخلاف السياسي يؤدّي حكما إلى تعطيل القرارات الإقتصادية والمالية والإدارية والإجتماعية. الجدير ذكره أنه لو تمّت الدراسة اليوم (في ظل الخلافات على تشكيل الحكومة) لكانت نسبة هذا العامل أكبر بكثير مما هي عليه.
العامل الثاني هو ضعف البنى التحتية والتي تُشكّل عقبة أساسية أمام الإستثمارات. وليس بالجديد القول أن شبكة الطرقات في لبنان وحدها تُشكّل مُشكلة مع أكثر من ملياري دولار خسائر على الإقتصاد اللبناني بسبب زحمة السير. وبالتالي فإن رزمة المشاريع المُتوقّعة من خلال مؤتمر سيدر 1 كفيلة بتوفير هذه الخسائر وتطوير ودعم الإقتصاد.
العامل الثالث هو الفساد والذي صنّفه رجال الأعمال على أنه مانع أساسي للقيام بأعمال إقتصادية في لبنان وهذا التصنيف حقّ! حق إقتصاديًا بحكم أن تأثير الفساد على الماكينة الإقتصادية هو كتأثير السرطان في جسم الإنسان، إذ يكفي رؤية بعض الدول الغنية بثرواتها الطبيعية كالعراق ونيجيريا لمعرفة مدى تأثير الفساد حتّى على الدول الغنية بالثروات الطبيعية. فكيّف الحال في لبنان؟
العامل الرابع هو البيروقراطية الحكومية والتي تمّ تصنيفها من قبل رجال الأعمال على أنّها غير فعّالة. بالطبع هذا التصنيف يأتي من منطلق المُقارنة الطبيعية بين القطاعين العام والخاص وبالتالي، وفي غياب المُحاسبة، نجد أن فعّالية القطاع العام لا يُمكن أن ترتقي بالمُجتمع اللبناني على كافة الأصعدة. من هنا تأتي أهمّية الإصلاحات في القطاع العام.
العامل الخامس هو عدم استقرار السياسات، والمقصود بها ثبات السياسات الحكومية على كافة الأصعدة إقتصاديًا، إجتماعيًا، ماليًا… وهنا يُمكن ملاحظة أن الحكومات اللبنانية المُتعاقبة لم تُكمل السياسات التي بدأتها الحكومة السابقة حيث نرى أن لكل وزير رؤية مُختلفة تمامًا عمّن سبقه وبالتالي يعمد إلى نسف عمل الوزير السابق. بالطبع هذا الأمر مردّه إلى عدّم وجود رؤية إقتصادية – إجتماعية واضحة.
هذه العوامل الخمسة وحدها تُشكّل بحسب رجال الأعمال 69% من العوائق التي تمنعهم من الإستثمار في لبنان، فلماذا إذن لا تعمد الحكومة إلى حلّ هذه المشاكل؟ وما الذي يُعيقها؟
إن تحميل المسؤولية للحكومة هو أمر مُحتمّ بحكم أن الإقتصاد لا يأخذ بالإعتبار القوى السياسية، بل يعتبر الحكومة مركز القرار. فعليًا، المانع الأساسي لحل هذه المشاكل تبقى الأحزاب السياسية والتي هي وليدة خيارات المواطنين. من هذا المُنطلق وفي ظلّ إستحالة أن تعمد القوى السياسية التي تتمثّل بنفس النسب في المجلس النيابي والحكومة، إلى إتخاذ قرار صارم بحلّ هذه المشاكل، ستبقى الأمور على ما هي عليه إلى حين وصول الدين العام إلى مستويات لا يُمكن بعدها إلأ إعلان الإفلاس.
وفي ظل فرضية أن القوى السياسية إجتمعت على ضرورة حلّ هذه المشاكل، الخطوة الأولى تكمن في إحترام مهلّ منطقية في تشكيل الحكومة، ووضع آلية لإتخاذ القرارات الإقتصادية والمالية والإجتماعية داخل الحكومة بطريقة لا يُمكن تعطيلها في حال كان هناك خلافات سياسية. أمّا الخطوة الثانية فهي خطوة بسيطة، إذ يكفي العمل على تنفيذ دقائق مؤتمر سيدر 1 بشقيّه الإستثماري والإصلاحي.
وهذا الأمر يؤسّس للخطوة الثالثة وهي محاربة الفساد عبر إجراء إصلاحات إقتصادية (هيكلية الإقتصاد)، مالية (مالية الدوّلة) وإدارية (محاسبة الموظفين في القطاع العام وتعزيز قدرتهم الإنتاجية).
أما الخطوة الرابعة فستأتي بشكل طبيعي من خلال تحسين مستوى الخدمات العامة ومكننتها ووضع مؤشرات عملية لأدائها. ويبقى وضع رؤية إقتصادية واضحة هو الحلّ لإستمرارية الثبات في السياسات الإقتصادية والإجتماعية.
في الختام، لايسعنا القول إلا أن هامش الوقت الذي كانت تمتلكه القوى السياسية عند تكليف الرئيس الحريري، بدأ بالإضمحلال وستكون تداعيات عدم تشكيل الحكومة بعد فترة وجيزة كارثية على الكيان اللبناني.