مهما كان الترتيب الذي سيتم التوصل إليه بين الاتحاد الأوروبي وبريطانيا في شأن شكل وطبيعة خروج هذه الأخيرة من الاتحاد (بريكزيت)، لم يتوصل الجانبان بعد إلى تقديم صيغة تقريبية لمستقبل أوروبا في القرن الحالي. فالعمل الأوروبي المشترك انطلق في ١٩٥٦ بتأسيس المجموعة الأوروبية للفحم والصلب وعضوية فرنسا وألمانيا وإيطاليا ودول «البينالوكس» الثلاث، وتطور في القرن العشرين ليصبح اتحاداً من ٢٨ دولة. وهو يواجه الآن تحدياً مصيرياً غير مسبوق ليس مصدره بريكزيت فحسب، بل صعود الشعبوية يميناً ويساراً في حياة أوروبا السياسية لأول مرة منذ الحرب العالمية.
ما يميز سياسات أوروبا راهناً بروز نماذج غامضة من السلوك الانتخابي، فضلاً عن خضات اقتصادية مفاجئة، إضافة إلى أزمة تدفق اللاجئين، ما سمح للحركات الشعبوية بالظهور السريع على يمين ويسار الأحزاب واستغلال فشل الأداء الانتخابي لعديد الاحزاب السياسية في كلٍ من يمين الوسط ويساره.
فمنذ الاستفتاء على بريكزيت في ٢٠١٦ كتب كثيرون ونشرت دراسات عدة في مسعى لفهم ظاهرة انتشار الشعبوية الراديكالي من داخل يمين الأحزاب الأوروبية ويسارها. وفي حين تُجمع معظم الدراسات على ان هذا الانتشار يخض بعنف المشهد السياسي التقليدي لسياسات أوروبا المعاصرة، في زمن يشهد فيه الاتحاد الأوروبي أزمات غير مسبوقة منذ الحرب، فإنه لم يجر البحث بعمق في انعكاس هذه التغيرات الجوهرية على مسلك الرأي العام في ممارسة حقه في الاقتراع وحظوظ الظاهرة الجديدة من يمين ويسار شعبوي على صعيد القرارات الوطنية.
نتائج انتخابات السويد الأحد الفائت تؤكد أن هذه الظاهرة ليست عابرة أو ليست استثنائية بسبب الخضة التي شهدتها جميع الأحزاب. فالحزب الديموقراطي الاشتراكي كان سعيداً لأنه لم ينهر تماماً مثل مثيليه في هولندا وألمانيا، على رغم انخفاض حصته من الاصوات بنسبة ٣ في المئة عن ٢٠١٤، وشريكه في الائتلاف الحكومي، حزب الخضر، تنفس الصعداء لأنه لا يزال موجوداً في البرلمان. كذلك سعد يمين الوسط (المعتدلون) على رغم انخفاض حصتهم من ٥،٢٣ الى ٢٠ في المئة. في المقابل حقق اليمين المتطرف (ديموقراطيو السويد) زيادة في حصته من ١٣ الى ١٨ في المئة تقريباً، ما يضعه في موقع تفاوضي قوي مع أي من الحزبين الكبيرين لتشكيل الحكومة الجديدة، كما يعكس تقدم أداءه الشعبي مرتين على التوالي في انتخابات ٢٠١٤ و٢٠١٨.
كما في السويد كذلك في دول أوروبية أخرى، حصدت أحزاب اليمين ويمين الوسط مكاسب أفضل من غيرها في الانتخابات العامة المتتالية، فيما تراجعت أحزاب يسار الوسط الرئيسية، ما يوضح خسارة هذه الشريحة من الأحزاب في مرحلة ما بعد الأزمة الاقتصادية والهجرة عبر أوروبا. وقد تكون أحزاب اليسار الراديكالي في هذه الأثناء حققت تقدما في مجموع المقترعين لها، لكن هذا التقدم كان أقل كثيراً مما حققه اليمين المتطرف.
هناك سمة رئيسية تميز أحزاب اليمين المتطرف وهي حشدها السريع لتأييد الجماهير على خلفية أزمة الهجرة، ولعل أفضل مثالين على ذلك ما حصل إثر الإنتخابات التشريعية في النمسا في ٢٠١٧ وإيطاليا في ٢٠١٨. في الأولى شهدت النمسا دخول حزب الحرية في إئتلاف مع يمين الوسط، حزب الشعب، وفي الثانية تشكيل ائتلاف حكومي بين اليمين الراديكالي (العصبة) وحركة النجوم الخمسة.
أما أحزاب اليسار الراديكالي التي حققت اختراقات هامة في الانتخابات الوطنية فكان تكتل اليسار في البرتغال الذي رفع حصته بنسبة جيدة في الانتخابات التشريعية لعام ٢٠١٥، كما لأحزاب أخرى مثل سيريزا في اليونان وبوديموس في إسبانيا اللذين حققا تقدماً برلمانياً لافتاً في العقد الماضي. ولكن يجب التشديد على أن هذا التقدم ليس شاملاً، إذ إن بعض هذه الأحزاب كان أقل حظاً من مثيله الأوروبي.
والسؤال المهم في الحقيقة: ما هي العوامل التي توضح تقدم أحزاب اليمين الراديكالي في الانتخابات؟. هناك عاملان: الأول مرتبط باستراتيجية أحزاب اليمين المتطرف، إذ تبدو للناخب العادي بسيطة وواضحة بتركيزها المستمر على الهجرة وربطها بجميع المشكلات التي يعاني منها ذاك الناخب وعلى الامتعاض من بيروقراطية الاتحاد الأوروبي عموماً. والثاني هو تمتع اليمين الراديكالي بقاعدة انتخابية تستهدفها تلك الأحزاب بانتظام، وهي أوسع مما هو لدى أحزاب اليسار. وتظهر دلائل عدة على نجاح أحزاب اليمين في استقطاب الرأي العام الواسع، لا سيما الطبقة العمالية التقليدية أكثر من قدرة أحزاب يسار الوسط، وهذا يعود إلى براعتها المميزة في الاستخدام الفعال لسلاح الهجرة في عملية التعبئة العامة.
إذاً، البساطة والوضوح في رسالة اليمين الراديكالي إلى جماهير أوروبا هما مفتاح نجاح أحزابه. فهذه الرسالة تحمل دائما صور الوطن وثرواته الغنية والتاريخية في مواجهة مشكلات مصيرية تهدد الأمة ومستقبلها وفي مقدمها الهجرة. وتبين جميع البحوث كيف أن مصدر المخاوف الشعبية تسطرها خُطَبُ وبيانات اليمين الراديكالي. وما يميز هذه الرسالة أنها تتقدم كثيراً عن رسالة يسار الوسط وحتى يمين الوسط لسهولة وسرعة وصولها إلى الجمهور.
في المقابل وعلى النقيض من اليمين، لا يزال اليسار بجميع أشكاله تقريباً مصدراً لأفكار يجد المواطن العادي صعوبة في فهمها، نظراً لتجريديتها وكونها تعكس مواقف سياسيين غير قادرين على الخروج من ثياب التنظير المبهم. فمثل هكذا أفكار يفشل سياسيو اليسار في ترجمتها إلى شعارات بسيطة تلامس مباشرة أحاسيس الجماهير العفوية. فشل اليسار الواضح في صوغ سياساته إزاء الأزمات الراهنة لا يساعد قضيته، وبخاصة عجزه عن تقديم تفسير مباشر ينافس ما يقدمه اليمين من رسائل تتناول الاقتصاد والهجرة. ويبدو اليسار الأوروبي في أحيان كثيرة وكأنه يتهرب من طرح إجابات عن أسئلة يومية ملحة، وذلك على عكس اليمين.
في كل الأحوال، يأتي اليمين الراديكالي في مقدمة معظم الأحزاب الاخرى في تقديمه رسالة شعبوية واضحة تتناول مسائل معقدة مثل جدوى الاتحاد الأوروبي وما تشكله الهجرة من تهديدات للقمة خبز المواطن، محققة بذلك مكاسب على صعيد الانتخابات. وما لم يبدأ اليسار ويسار الوسط بطرح خطاب أوضح للقضايا المعدة يلامس مصالح الجماهير مباشرة فلا مجال أمامه غير المزيد من التراجع وفقدان مركز التأثير في صنع القرار… ومن ثم الزوال.