يدعو سمير جعجع “حزب الله” للعودة إلى لبنان. تستثير الدعوة في الشكل، نقاشا حول ما إذا كان الحزب قد غادر لبنانيته حتى يعود إليها، وحول ما إذا كان الحزب قد آمن يوما بهذه اللبنانية المفترضة. وإذا ما كان التشكيك بلبنانية الحزب مثار جدل وربما غضب من الأنصار والمريدين، فإن في أدبيات الحزب القديمة – الجديدة ما يعكس نزوعا يدعو إلى الفخر في أمر الارتباط بمشروع أممي إسلاموي كبير ينهل قوته من نظام الولي الفقيه في إيران.
نشأ “حزب الله” داخل مساحة لم تكن معنيّة بالنقاش اللبناني الذي أفضى إلى اتفاق الطائف عام 1989. اتفق اللبنانيون على أن لبنان بلد نهائي. تفاجأ البعض من أمر هذه المسلّمة التي لم تكن محسومة منذ الاستقلال عام 1943، ومن أنه كان على اللبنانيين أن يتأملوا الأمر خلال عقود، وأن يخوضوا حروبا أهلية كبرى وصغرى، حتى يكتشفوا بالنصّ، أن بلدهم وطن، ونهائي، على نحو يفترض أن يسدّ الطريق أمام تسرّب اللبنانيين نحو أوطان أخرى، أو استدراج أوطان الآخرين إلى أحضانهم.
أعاد “حزب الله” في أدبياته الأولى الروح إلى عقائد لطالما كفرت بحدود سايكس- بيكو، واعدة بتحطيمها لمدّ وطن لا حدود له. جاهر السيّد حسن نصرالله ، منذ السنوات الأولى، في الإعلان بفخر عن هدف “حزب الله” النهائي. لم يكن الرجل يتحدث عن قناعاته فقط آنذاك، بل عن مشروع عقائدي قادته وجوه تخلى البعض منها عن الحزب لاحقا، يروم إقامة جمهورية إسلامية في لبنان تكون تابعة للجمهورية الإسلامية في إيران . لم يكن في ما تسرّب صدمة مقززة، ذلك أن فكرة الولاء لخارج ما، كانت وما زالت رائجة في المنطقة، مستوحية أممية مركزها موسكو، وماوية تُنفخ من بكين، وعروبة تبشّر بها ناصرية القاهرة وبعثية بغداد ودمشق، وحتى جماهيرية القذافي في ليبيا.
ربط “حزب الله” في ثمانينات القرن الماضي وجوديته بسلامة الجمهورية الإسلامية. وجاهر نصرالله قبل سنوات بأن المال والقوت والسلاح والعتاد والعقيدة مصدرها نظام الولي الفقيه في طهران. صادر الحزب الحراك الهوياتي الشيعي الذي باشره السيد موسى الصدر، وساقه عن سابق تصور وتصميم ليكون في خدمة رياح تنفخ في طهران. فإذا كان الصدر أراد في ورشته، منذ ستينات القرن الماضي، أن يقوّي لبنانية الشيعة في مواجهة الرياح القومية والأممية التي شتت عصبيتهم، فإن “حزب الله” استطاع بنجاح دفع شيعته إلى التحلل من لبنان والتبرؤ من المحيط العربي “المشبوه” للالتصاق بـ”طهارة” الثورة في إيران .
قد يكون حريّا ملاحظة اكتشاف السنة في لبنان ، مع انبلاج الحريرية السياسية التي حملها رفيق الحريري ، للبنانية تأخروا عنها. صمدت هذه اللبننة داخل “لبنان الوطن النهائي” رغم اغتيال الحريري منذ 13 عاما. ارتبطت لا نهائية لبنان بمشاريع عابرة للحدود كان السنّة يحملون مشاعلها. التصقوا بالناصرية وتبرموا من عدم شمول الجمهورية العربية المتحدة التي أعلنت في نهاية الخمسينات لبنانَهم. والتصقوا بالمقاومة الفلسطينية متحرّين عبر ذلك الدفاع عن “عروبة لبنان” المهددة من قبل من يعتبرون لبنان بلدا ذا وجه عربي، ويبشرون به “سويسرا الشرق” ذا أصول فينيقية غابرة.
تراجعت حظوة موسكو والقاهرة وبغداد، وتقدمت دمشق بديلا وحيدا لكل من ينشد مرجعيات فرع تبعدهم عن بيروت الأصل. وجد الماركسيون والثوريون والقوميون، العروبيون والسوريون، في نظام دمشق حائط مبكى يذرفون عنده دموع خيبتهم وينهلون منه ما يستر عوراتهم. بدا أن لبننة الطائف لم تكن في عرف دمشق إلا معادلة لجعل لبنان “نهائي” تحت جناح سوريا. وبدا أن نسخة تلك اللبننة تأتي متّسقة مع أسطورة “شعب واحد في بلدين” وفق فذلكة أطلقها الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد . وعلى هذا بدا أن اغتيال رفيق الحريري عام 2005، كان يهدف إلى حماية دمشق، ومن ورائها طهران، من رواج قوة لبنانية جاذبة نحو لبنان بدأت تسبب ارتخاء في مفهوم الولاء لمشاريع فوق لبنانية كان اللبنانيون يتلقفونها بنهمٍ يُشبعون منها ما لديهم من عطش وحاجة.
وُلد “حزب الله” ليكون غير لبناني. وإذا ما سألت قيادات الحزب عن هذا الأمر فلن ينكروه ولن يعيبهم أمر ذلك. وبالتالي فإن في دعوة جعجع للحزب للعودة إلى لبنان ضجيجا لا يصل إلى مسامع الحزب وقياداته. وربما صدق زعيم “القوات اللبنانية” حين تساءل “ماذا ينفع الإنسان لو ربح المعارك كلّها وخسر وطنه؟”، غير أن المعضلة البنيوية تكمن في أن الحزب لا يجد في لبنان وطنا نهائيا يلوذ به. وإذا ما راح جعجع في ندائه يبشر بأن “نحن جميعًا في انتظاركم”، فإن الرجل سينتظر كثيرا.
لا يستطيع “حزب الله” أن يكون لبنانيا يكتفي بحدود لبنان ويعمل وفق مصالح لبنان وحده، فذلك نقيض كينونته. ولا يستطيع “حزب الله” أن يمارس السياسة كما تمارسها بقية الأحزاب والتيارات والمشارب اللبنانية الأخرى داخل البرلمان والحكومة والمؤسسات، فذلك بعيد عما هو مطلوب من وجوده. وإذا ما كان حزب الله صريح في ولائه لإيران متقيّد باستراتيجياتها مطيع لخياراتها، فإن الطبقة السياسية اللبنانية بالمقابل، تتعامى عن ذلك وتمعن في التعامل مع الحزب بصفته يمارس شططا مؤقتا يبعده عن لبنان، بما يستدعي مناداته للعودة إلى البيت كما تنادي الأم ابنها النزق.
مارس “حزب الله” سياسة إيران في المنطقة والعالم. مارس خطف الرهائن الغربيين في لبنان في ثمانينات القرن الماضي لكي يتمّ فك أسرهم من خلال صفقات تُعقد مع دمشق وطهران. وأمعن الحزب في العداء للغرب، ضاربا عرض الحائط بمصالح البلد مع الخارج. وراحت أجهزته الأمنية والعسكرية والإعلامية تضرب ضد هذه الدولة الخليجية أو تلك على نحو متعارض مع مصالح البلد كما مع مصالح اللبنانيين، بمن فيهم الشيعة، في الخليج. الأولوية كانت، وما زالت، أولوية إيرانية، ولم يمتلك الحزب من اللبنانية من الهامش إلا بالقدر الذي لا يمسّ مصالح طهران وخططها واستراتيجياتها.
لن يعود “حزب الله” إلى لبنان. مصيره مرتبط بمصير النظام في إيران. فإذا ما اهتزت شوارع إيران بمظاهرات مناوئة للحكم والحكومة في طهران قلقت أركان الحزب في لبنان ، وإذا ما بدا أن العقوبات الأميركية الحالية تهزّ أركان الاقتصاد والاستقرار في إيران ، ارتعب الحزب من مآلات ذلك على مصيره ومستقبله، وإذا ما بدا أن ما يُرتّب في سوريا يستدعي انسحاب كافة الميليشيات بما فيها “حزب الله” من هذا البلد، فإن ذلك قد يعيد قوات الحزب إلى لبنان دون أن يعني ذلك عودة للحزب نفسه إلى لبنان.
لن يكون حزب الله حزبا لبنانيا يدافع عن الشيعة في لبنان، فهذا ليس في طينته وتركيبته وسبب وجوده. وقد يكون مشروعا أن يدعو جعجع الحزب للعودة إلى لبنان، لكن الحزب إن عاد سقط ولن يكون “حزب الله”.