سيكون من المفيد جداً، قراءة سطور خطاب رئيس حزب “القوات اللبنانيّة” سمير جعجع، وما بينها لفهم مقاربته. ومن المفيد أيضاً تفنيد المفردات التي استخدمها من على منبر قدّاس الشهداء، لما لها من رمزية مرتبطة بالمناسبة، وبالأهداف التي يرسمها الرجل لنفسه ولموقعه.
تقيم “القوات” وزناً هاماً لهذا اليوم في رزنامتها الحزبية. تحضّر له بعناية فائقة تشمل كلّ التفاصيل، تلك المهمّة، وتلك الأقل أهمية. لكلّ حركة شهدها “الكادر” يوم الأحد، مكانتها في الصورة الكبيرة التي تنحتها معراب على «صخرة الوقت»، ولكل كلمة وقعُها المنتظر في السياق المرسوم منذ سنوات، وللسنوات المقبلة.
الأهم من ذلك، ضرورة إحاطة لقطات يوم الأحد البصرية والسمعية بمشهدية الحراك القواتي خلال المرحلة الأخيرة، بعدما قررت معراب الخروج من داخل أسوار القلعة الكسروانية لطرق أبواب مقار سياسية، لم يسبق أن طرقتها من قبل.
مذ شعرت “القوات” بأنّها وحيدة في محورها بعد مغادرة حليف «الثورة الهامدة»، رئيس تيار “المستقبل” سعد الحريري ليلجأ إلى أحضان المحور الخصم من خلال التفاهم أولاً مع سليمان فرنجية، ثم مع “التيار الوطني الحر”… بدأت حملتها المضادة.
يومها لم تجد معراب حليفاً لها إلّا المملكة العربيّة السعودية، فسارعت إلى ملاقاة الرابية في منتصف الطريق لتعيد تصويب علاقة كبّدت المسيحيّين أثماناً باهظة، وتفتح ثغرة في جدار الرئاسة الحديديّ، وتعيد رسم تموضعها التكتيّ.
هكذا تعلّمت “القوات” من “كيس خوفها” من الحصار الداخلي بعد التشوّهات الخلقية التي طالت “جسر التعاون” مع تيار “المستقبل” بفعل “الخطيئة الأولى”، أي الاقتراح الأرثوذكسي لقانون الانتخابات والذي قرّرت معراب تبنّيه في ليلة لا ضوء قمر فيها، ما أدّى إلى هتك غشاء الثقة الرقيق.
يومها شعرت معراب أنّها أوْلى بنفسها وأنّه لا يحكّ جلدها إلّا ظفرها، ما دفعها إلى تعزيز قنوات الاتصال والتواصل مع الرياض ليكون الخط مباشراً بلا وسيط محلّي. بالفعل تمكّن جعجع من الإثبات أنه حليف صلب لا غبار عليه، ونجح أيضاً في اجتياز معمودية الانتخابات بتفوّق، مثبِتاً أنّه شريك قوي بـ”عضلاته” له وزنه الشعبي وغير مُنزل بـ”الباراشوت”.
إستحضار بشير
بالأمس، وقف جعجع على منبر ذكرى الشهادة ليضع لبنة جديدة في «هيكله». ولهذه الطبقة مغزاها المسيحي البحت. لم يكن استحضارُه سيرة بشير ثماني مرات في الخطاب عن عبث، ولم يكن ذكره عبارة “الحلم” سبع مرات عفوياً، أو ترداده كلمة “دولة” أكثر من عشرين مرة، اعتباطياً.
المسألة مدروسة بعناية. يدرك رئيس حزب “القوات” جيداً أنّ هذه المحطة لها مكانة خاصة في وجدان المسيحيّين، وما انكفاء شريحة كبيرة منهم عن المشاركة في استحقاق رعاه النظام النسبي، إلّا مؤشر فاقع على رفض هؤلاء الطبقة القائمة، سعياً إلى تجديد “حلم قديم”، أو بحثاً عن “حلم” جديد. أكثر من ذلك، يعتقد جعجع أنّ حجم حضوره الشعبي بات يسمح له بتقديم نفسه للرأي العام المسيحي أنه وحده “المؤتمن على حلم بشير” في قيام “الدولة”.
أمعن الرجل في اللعب على وتر نوستالجيا مرحلة تُختصر بعنوان واحد: المارونية السياسية. ينطلق من الحيثية التي كرّستها نتائج الانتخابات وجعلته شريك “الثلث” كما قال، بلا منّة تحالفات النظام الأكثري، والتي كانت «عقدته» طوال سنوات التفاهم مع “المستقبل” و”الحزب التقدمي الاشتراكي”.
تقصّد استخدام لغة الأرقام لما لها من وقع قوي في أذهان الناس لا يُمحى بسهولة، فأشار بوضوح إلى أنّ حزبه صار يمثل ثلثَ الشارع المسيحي. ما أراد قوله إنه لم يعد هناك من فريق غالب أو يملك الأكثرية. “تغيّر كلّ الموضوع”.
الإستراتيجية التوسّعية
في هذه الأثناء، وخلال الأسابيع الأخيرة، تبيّن بوضوح أنّ استراتيجية “القوات” التوسّعية راحت تأخذ معالمها بشكل واضح. صارت أبواب عين التينة مفتوحة أمام الزوار القواتيّين، ومن المرَحّب بهم. ليس بالضرورة أن تكون اعتبارات الرئيس نبيه بري متطابقة مع حسابات جعجع، لكنّ التقاطع الحكوميّ جمعهما في مربّع مشترك أحسن الرجلان استثمارَه. وفي السياق نفسه، تغاضى جعجع في خطابه عن “إشكالية” سلاح “حزب الله” التي كانت لزمن طويل متراساً بينه وبين الضاحية. اكتفى بدعوة الحزب إلى “العودة”، وكأنه يدعو”الابن الضال” للعودة إلى “بيت أبيه”.
كما أنّه سعى إلى “استنفاد” المصالحة مع “التيار الوطني الحر” حتى قطرتها الأخيرة: حيّد رئيس الجمهورية العماد ميشال عون وخاطب متودّداً القاعدة العونيّة، وهو يدرك جيداً أنّ صهوة هذه المصالحة هي التي سمحت له باختراق عمق جبل لبنان وقضم عدد من نوابه.
في المحصّلة، يقول راصدو حركته إنّه صار مقتنعاً أنّ ترشحه لرئاسة الجمهورية كخطوة جدّية لم يعد ضرباً من الخيال: حيثيّته الشعبيّة صارت وازنة، الفريق السنّي أي تيار “المستقبل” من حصّته، فيما تمكّن هو من اختراق الساحة الشيعية. ولهذا ثمّة تركيز غير مسبوق على “تشويه” صورة منافسه الأبرز جبران باسيل، مع العلم أنّ الأخير “لا يقصّر” أيضاً في “تشويهها” أو أقله يفشل في تجميلها.
كما يعتبر أنه “استردّ” الحريري إلى ضفّته، في الوقت الذي يوسّع فيه وليد جنبلاط هامشه ليكون في منطقة وسطى بين الرياض والضاحية الجنوبية، أما تطوير الاختراق على الساحة الشيعية فقد يمنحه بعداً وطنياً يجعل من الرئاسة غيرَ مستحيلة.
أين الاستثمار؟
يوافق منتقدوه على وصف خطاب يوم الأحد بالمنمّق والجذّاب والمرصوص لخدمة الهدف المرسوم للمرحلة. ويقولون إنّ الرجل نجح في حجز موقع متقدّم في السعودية التي أبلغته بأنّ الحريري لن يتخلّى عنه في مفاوضات التشكيل، فيما رفع سقف رئيس الحكومة المكلّف بحجّة المطالب القواتيّة يساعده على تحسين موقعه التفاوضي. إذاً للحليفين مصلحة في هذا التصلّب.
ويؤكدون أنّ كلّ المؤشرات تدلّ على أنّ جعجع يخطّط لرئاسة الجمهورية من خلال إعادة رسم “الخط الأزرق” لحدود تحالفاته، واعتماده الخطاب التعبوي للمسيحيّين. وفي حال صعبت عليه المهمّة أو بالأحرى استحالت، فهو سيقطف ثمار الزعامة التي يزرع بذورها بواسطة اللّغة الاستقطابيّة.
ولكنّ هذا لا يعني أبداً أنّ الرجل قد يحقق مآربه. بالنسبة لهؤلاء فإنّ التعقيدات التي تشوّه المشهد الداخلي سمحت لجعجع بكسر طوق معراب ليوسّع هامش تحرّكه. لكنّ سقف هذا التوسّع محدودٌ جداً، وفق هؤلاء، لأنه لا يتجاوز التقاطعات الداخلية حول مسائل محدّدة، يمكن وصفُها بالزواريب المحلّية.
أما غير ذلك فخاضع لموازين القوى في المنطقة، وتحوّل جعجع إلى مرشّح جدّي يعني قفزه من ضفّة إلى أخرى، أو غلبة المحور المنتمي إليه. ولهذا فإنّ “تقريش” الخطاب على المدى البعيد صعب جداً، وسقفه الأعلى دغدغة المشاعر لا أكثر.