يبدو أن طلب المساعدة من صندوق النقد الدولي ليس جديدا في الأرجنتين. في العام ٢٠٠١ تخلفت الأرجنتين عن ١٣٢ بليون دولار من الديون الخارجية وتدخّل صندوق النقد الدولي للمساعدة، وبعد فترة وجيزة اعترف الصندوق بأن تدخّله أطال أمد الأزمة في البلاد.
يبدو اليوم أن السيناريو نفسه يتكرّر في الأرجنتين حيث طلب الرئيس الارجنتيني ماكري مساعدة الصندوق، الأمر الذي أثار احتجاج الأرجنتينيين سيّما وأن الصندوق لديه سمعة رهيبة لديهم، وهذه مقامرة سياسية كبيرة للحكومة حسب فيرنا مكي المدير الإقليمي لأميركا اللاتينية في الـ RIU.
ويبدو أن بيونس إيرس تمر بكابوس اقتصادي كبير مع سرعة سقوط البيزو مقابل الدولار الأميركي بعد انتعاش كبير شهدته الأرجنتين في العام ٢٠١٧. لكن الصورة الوردية لهذه الدولة الاميركية الجنوبية اهتزّت مؤخراً الأمر الذي دفع بالسلطات إلى رفع أسعار الفوائد بنسب خيالية وصلت إلى حدود الـ٦٠ بالمئة في محاولة للجم التضخم والذي وصل إلى ٣٠ بالمائة، الأمر الذي أظهر للأرجنتين والمستثمرين بشكل عام أن التقلبات المالية لم تنته بعد، وهم على أبواب عملية مشابهة لتلك التي حدثت في العام ٢٠٠١ .
مع العلم، ان أحداً لم يتوقع هذه السرعة في قيمة البيزو مقابل الدولار الأميركي بسبب مخاوف المستثمرين في شأن قدرة الحكومة على السيطرة على التضخّم وارتفاع أسعار الفوائد الأميركية من قبل المجلس الاحتياطي الفدرالي الأمر الذي عزّز الدولار عالمياً، وهذا يعني أن ديون الأرجنتين بالدولار أصبحت أغلى الأمر الذي دفعها إلى اللجوء إلى صندوق النقد الدولي للحصول على قرض بقيمة ٥٠ مليار دولار.
يعتبر معدل التضخم في الأرجنتين أحد العوامل الذي يجعل الأرجنتين أكثر تأثراً من غيرها من الأسواق الناشئة لتحركات المستثمرين العالميين بعيداً من الأصول الخطرة. علماً أن الحكومة ومنذ سنوات، كانت تطبع المال لتمويل عجز الميزانية مما أدّى إلى ارتفاع الأسعار، علماً أن ماكري حاول خفض هذه الممارسة إلا أن التضخم ظلّ مرتفعا، وساعد في ذلك التدهور السريع في سعر البيزو.
أضف إلى ذلك عامل احتياطي النقد الأجنبي وبيع مليارات الدولارات من احتياط العملات الأجنبية لحماية البيزو مما أدّى إلى انخفاض حاد في الاحتياطات التي نمت منذ أن وصل ماكري إلى الحكم في العام ٢٠١٥ . صحيح ان قرض صندوق النقد الدولي وقد يعطي بعض الدعم للاحتياطي، إلا أن الضغط على البيزو دفع البنك المركزي للتدخل من جديد.
ومن المنطقي القول أن ظهور التضخّم وارتفاع أسعار الفائدة أثرا على الاقتصاد. بالإضافة إلى العاصفة المالية، تعرّضت الأرجنتين الى أسوأ موجة جفاف منذ عقود، الأمر الذي قضى على محاصيل الفول والصويا والذرة عصب الاقتصاد الأرجنتيني.
وتراجع الاقتصاد على مدى ثلاثة أشهر متتالية مع قطاع زراعي متراجع الأمر الذي يقود الى ما نسميه الكساد. وقد تراجع الاقتصاد بنسبة ٦٫٧ في المائة في حزيران الماضي وهو أسوأ انخفاض شهري منذ الأزمة المالية العالمية في العام ٢٠٠٩.
وفي دول تحاسب رؤساءها، يبدو أن الكساد يهدّد إثنين من وعود ماكري الانتخابية، سيما وعد الـ»لا فقر « (Zero Poverty) وخلق فرص عمل جديدة للأرجنتينيين. الواضح لغاية الان، أن الفقر ازداد بسبب التضخم والتباطؤ الاقتصادي بينما تراجع عدد العمال المسجلين، وخطط الدولة لخفض الانفاق على البنية التحتية في إطار تعهداتها لخفض عجز الموازنة قد يؤدي إلى تفاقم مشكلة البطالة، وقد يسبّب الكثير من المشاكل للرئيس الارجنتيني، ويهدّد حظوظه بإعادة انتخابه في العام ٢٠١٩.
إلا أن الأمور لا تقف عند ذلك سيما وإنه إقتصادياً غالباً ما تكون هذه المشاكل مترابطة بشكل تهدد بانهيار اقتصادي، كما ذكرنا سابقاً. هذا الوضع يذكّر بالذي حدث في بداية القرن الواحد والعشرين سيما وأنه عالمياً لا تبدو الأمور جيدة مع تقارير صندوق النقد الدولي التي تفيد بأن المخاطر التي يتعرّض لها استقرار النظام المالي العالمي تزداد، وان على الحكومات «اتخاذ إجراء حاسم الان»، وهذا يعني أنه من غير المرجّح أن يجدون صعوبة في الاقتراض من الأموال التي يحتاجونها عند ضعف الاقتصاد.
هذا في الاجمال، أما في وضع الارجنتين فيبدو أن الثقة في الاقتصاد الارجنتيني بدأت تتضاءل والصورة قاتمة مع فقدان البيزو أكثر من٤٠ بالمائة من قيمته مقابل الدولار الأميركي، والحياة اليومية أصبحت أغلى للأرجنتيني حيث ارتفعت أسعار الكثير من السلع والخدمات التي ما زالت ترتبط إرتباطاً وثيقاً بالدولار الأميركي. ويرى مسؤولون في الارجنتين أن اللجوء إلى صندوق النقد الدولي هو أرخص مصدر للتمويل، وقد يكون قرض الصندوق فقط لتعزيز احتياطات البلاد ومنع البيزو من الانهيار أكثر.
من الأكيد أن حزمة صندوق النقد الدولي تخفّف من مشاكل التمويل في الوقت الحاضر إلى أن الحكومة ما تزال غير واضحة وحل مشكلة التمويل سيساعد على تفادي الأزمة ولكن لن يغير من حقيقة أن البلاد بحاجة إلى إجراء تعديلات اقتصادية مؤلمة، سيما وإن الحكومة تواجه عقبة رئيسية في تشرين الثاني عند استحقاق 7 مليارات دولار لتسديد ديون بالعملات الأجنبية، وهذا يذكّر بالعام ٢٠٠١ حين عجزت الحكومة الارجنتينية عن سداد ديونها الأمر الذي ترك النظام المصرفي في حال شلل إلى حد كبير.
هكذا نعود إلى الحلقة المفرغة للديون والتي تفوق بحجمها اقتصاديات الدول الناشئة، سيما مع شبح أسعار فوائد مرتفعة من قبل الاحتياطي الفيدرالي الأمر الذي يزيد من مخاطر الائتمان والديون وتأثيرها المفصلي على إنعاش الاقتصاد.