تقدّم الرئيس المكلف تشكيل الحكومة سعد الحريري بتشكيلته الحكومية بعد جولات من الإستشارات النيابية، وربما للمرة الأولى، وفقاً لمنطوق الدستور في مادته الرابعة والستين. الحضور الواثق للرئيس المكلّف في القصر الجمهوري وانتقاؤه الكلمات التي توصّف دوره ودور رئيس الجمهورية في مسار التشكيل، إنما عكس وللمرة الأولى الحذر من استخدام عبارات قد تكرّس أعرافاً في زمن الجنوح نحو الإنقضاض على الطائف.
إعلان الرئيس المكلّف من قصر بعبدا عن صيغة “حكومة وحدة وطنية لا رابح فيها” عبّر بوضوح عن وقع الضرورة الوطنية التي لا يمكن مواجهتها دون حكومةووقع الدور الذي يمثّله الحريري في هذه الظروف والذي يتمسّك به حلفاء رئيس الجمهورية.
إنجاز التشكيلة الحكومية هو إعلان نهاية مرحلة وبداية مرحلة جديدة، بعد مجاهرات علنيّة من فريق رئيس الجمهورية بعدد وافر من الشروط لا يتعلّق فقط بحجمه الحكومي، بل بتحديد أحجام العديد من الكتل النيابية الموجودة فعلاً أو تلك التي تمّ تركيبها. تطرح التشكيلة الحكوميّة، بصرف النظر عن مضمونها، تساؤلات حذرة ستجيب عنها الأيام القليلة القادمة، كيف سقطت المطالبة بالثلث المعطل، وما هي الظروف التي أسقطتها؟ هل توقفت موجة الإنقضاض على الطائف، وهل أصبح القَسَم على الدستور معبّراً عن الإلتزام النهائي به؟ وهل ستعكس الحكومة المنتظرة ذوباناً إنسيابياً لكلّ الإتفاقات المعقودة على شرف رئاسة الجمهورية، من التسوية الرئاسيّة حتى إتّفاق معراب، في متن الدستور؟
حمل كلام الشيخ نعيم قاسم أول من أمس، أكثر من دلالة، بل أكثر من إنذار، يأتي في طليعتها الإعلان الصريح عن وقف البازار المبكر للإنتخابات الرئاسية: “واهم من يعتقد أنّ موقعه داخل الحكومة يُهيء له أن يكون رئيساً للجمهورية، إذا كان البعض يظن أنّ ربط تشكيل الحكومة بالخارج أو بأزمات الخارج يؤدي الى حلّ فنقول له لا، إنما ذلك يؤدي الى مزيد من التعطيل…. إنّ رئاسة الجمهورية لم تكن يوماً في لبنان مرتبطة بتشكيل الحكومة، فقبل إنتخاب رئيس الجمهورية كانت دائماً تحصل تداخلات محليّة وإقليمية ودولية وأحياناً يكون الحل غير متوقّع وبالتالي فرئاسة الجمهورية لها مسار آخرعندما يحين وقتها…”.
أما الدلالة الأخرى التي يمكن إستقراؤها فهي الإعلان عن انتهاء مفاعيل الصفقة الرئاسية بمجرد إنهاء الشغور وإنتخاب الرئيس، بحيث يكون لكلّ إتفاق مُقبل شروطه وظروفه، وإنّ الإمعان في إظهاررغبة الإستئثار قد يعرّض التحالف السياسي برمّته للخطر.
كان على منظّري الفريق السياسي لرئيس الجمهورية، قبل الإصرار على الإنقضاض على رئيس الحكومة وما تيسّر من الفرقاء السياسيين،النظر والتبحّر ملياًّ في خريطة العالم والشرق ليدركوا أنّه لم يحنّ الوقت في لبنان الذي يمكن فيه الإستغناء عن أحد. لم يشعر هذا الفريق بالحراجة التي يعاني منها حلفاؤه. حليفه في دمشق الذي نجح من خلال قانون الإنتخاب في إنتاج خليّة نيابية موالية له، لا يزال حتى إشعارٍ آخر يقف على مشارف محافظة إدلب منتظراًمسار تفاهمات دوليّة وإقليميّة على خارطة النفوذ في شمال بلاده، كما ينتظرمآلات المبادرة الروسية لإعادة اللاجئين السوريين في ظلّ قرار أميركي أوروبي بعدم تمويل العودة.الحليف الدمشقي تقضّ مضجعه مساومة جاريّةأميركيةروسية أوروبية تربط كلّ هذه الملفات بمستقبله السياسي الذي لا يؤمّن له حضوره الميداني والسياسي الحصانة الكافية.
مستقبل الإنتشار الإيراني أيضاً يقف على مفترق طرق في ظلّ الأثمان المطلوبة أميركياً.الإنسحاب الأميركي من الإتّفاق النووي ورزمة العقوبات الإقتصادية ألقت بثقلها على الإنفلاش الإيراني العشوائي من اليمن الى بيروت مروراً بالساحتين العراقية والسورية. التكلفة الباهظة التي تفوق الإحتمال إعترف بها الأمين العام لحزب الله وتبشّر بها كلّ يوم ساحات الإعتراض في طهران وسواها من المدن. والتكلفة السياسية عبّر عنها بصراحة أكثر من مرة رئيس الحكومة العراقية حيدر العبادي المتحالف مع زعيم التيار الشيعي الأوسع في العراق مقتدى الصدر برفضه إنتشار السلاح غير الشرعي.
عنوان الممانعة الذي استظلّته إيران والنظام السوري وقدّمته كأوراق إعتماد لها لدى الجمهور العربي، مهدّد بالسقوط. يظهر النظام السوري أقصى درجات اللامبالاة مع تعرّض مخازن الصواريخ الإيرانية في العمق السوري للقصف الإسرائيلي، وآخرها في مطار المزّة في العاصمة دمشق ومع إعلان رئيس الحكومة الإسرائيلي بنيامين نتانياهو أكثر من مرة عن إطمئنانه لأمن حدوده مع عودة الجيش السوري إليها.
إقدام الرئيس الحريري على وضع التشكيلة الحكومية على طاولة الرئيس قد يفتح الطريق أمام إنفراج سياسي بقدر ما يمكن أن يزيّن للبعض لذّة الإنتحار السياسي. فهل يتعظّ الفريق المغامر ويتخلى عن مهمة الحراثة في البحر؟