بقلم: دافيد عيسى
“التيار ليس فقط لا يغطي أيّ عملية خروج على الآداب والأخلاق على مواقع التواصل، بل يدعو القضاء إلى التحرّك حتى ضدّ أيّ ناشط أو متحمّس للتيار وأنا أبدأ بالتيار قبل الآخرين، وإن المس بالمقدسات مرفوض، فالشهيد هو شهيد الوطن بغض النظر عن أي انتماء”.
إستوقفني ملياً هذا الكلام العاقل والمسؤول الصادر عن رئيس “التيار الوطني الحر” جبران باسيل الداعي إلى الترفع والتهدئة والتزام القواعد الأخلاقية في التخاطب والتساجل على مواقع التواصل الاجتماعي التي أضحت ساحة للتراشق الكلامي بدل أن تكون مساحة للحوار وتبادل الأفكار وتفاعلها، هذا التراشق الذي تستعمل فيه كل أنواع الشتائم والإهانات والذي ينمّ عن انحدار فكري وانهيار أخلاقي مريع.
حسناً فعل جبران باسيل، لأنّه بموقفه هذا كان يُعبّر عن موقف اللبنانيين عموماً والمسيحيين خصوصاً الذين سئموا وقرفوا هذا الخطاب الذي اوصل المسيحيين الى التحت الذي ليس تحت تحت تحته تحت (حسب قول السفير فواد الترك رحمات الله عليه)
من المهم أن يبدأ كل حزب من ذاته أولاً، ويجب أن يكون لدى كل حزب الجرأة في إخضاع ذاته وناسه للمحاسبة والمساءلة… وإذا كان كل فريق يمتلك الجرأة والقدرة على تنقية صفوفه والاعتراف بأخطائه، فإننا نصل حكماً إلى مجتمع يسوده الحوار والتسامح والمحبة…
كذلك من الواجب كمجمتع واحزاب وطوائف وافراد أن نتمسك بمقدساتنا، برموزنا، بشهدائنا ولا نقبل أي مسّ بهم وأي تطاول عليهم، الشهيد إلى أي حزب وفريق سياسي انتمى وفي أي ساحة سقط هو شهيد الوطن لأنه كان يدافع عن قناعة وقضية التزم بها وكان يقاتل من أجل الوطن الذي كان يريده ويسعى إليه ويحلم به.
لكل منا في لبنان قضيته التي يراها محقة وعادلة، وشهداؤه الذين ماتوا من أجل أن يبقى ويستمر في وطنه… فلنحترم الشهداء وشهادتهم وذكراهم ولندعهم يرقدون بسلام في عليائهم بعيداً عن صخب أهل الأرض وصراعاتهم وسخافاتهم.
وكذلك من الضروري الالتزام بالآداب والأخلاق في علاقاتنا واتفاقاتنا وحتى في مواجهاتنا وخلافاتنا، وإذا صح أن للعبة السياسية قواعدها، فإن أولى هذه القواعد هي عدم الخروج على الأصول والقيم الأخلاقية في التصرف والممارسة والمخاطبة.
لا يمكن القبول بحالة من الفوضى متفلتة من القيود والضوابط، تمعن في شحن الأجواء وتعبئة النفوس وإثارة الغرائز والنعرات والعصبيات، وتأخذنا إلى مستويات متدنية وإلى عالم لا يشبهنا ولا يمت بصلة إلى تاريخنا وحضارتنا وقيمنا وتضحياتنا ومستوانا الفكري والاجتماعي، فما نقرأه ونسمعه غريب عنا ودخيل علينا ومثير للقرف والاشمئزاز والقلق على مجتمعنا وعلى مستقبلنا ويشجع ما تبقى من شبابنا على الهجرة وترك هذا الوطن.
أنطلق من كلام الوزير جبران باسيل الذي أتى “حفراً وتنزيلاً”، في وقته وفي زمانه ومكانه، لأدعو إلى ضبط الانفعالات والألسنة وإلى لجم الغرائز والعصبيات، وهنا لا أدعو إلى وحدة صف وموقف وأعرف أن هذا صعب في مجتمع متعدد الانتماءات والولاءات والمصالح السياسية والحزبية، ولكن أدعو إلى تنظيم الخلاف وإلى رفع مستوى الخطاب والكلام واحترام المقدسات والشهداء.
نحن لا نطالب رؤساء الأحزاب وأنصارهم أنْ يتفقوا ويتآلفوا ويقفوا صفاً واحداً، وإنما نطالبهم بأن يحسنوا إدارة خلافاتهم وأن يخوضوا خلافاتهم بأساليب راقية وعقول ونفوس كبيرة، نطالبهم بعدم اللجوء إلى العنف الكلامي والشتائم والكلام البذيء ونبش الماضي الأسود والأحقاد وعدم الاسترسال والاستغراق في أجواء الكراهية حتى لا تصاب المصالحة المسيحيّة في روحيّتها وجوهرها وتطال القواعد الشعبيّة.
يمكن للسياسيّين المسيحيّين أنْ يختلفوا في السياسة وأن لا يلتزموا في الاتفاق السياسي او ما سمي “اتفاق معراب” ما شاؤوا، ولكن لا يمكن ولا يجب لخلافهم السياسي أن يؤثّر على المصالحة بين قواعدهم وشبابهم ويطيح بها، الاتفاق السياسي شأنهم ويخصهم لوحدهم ولهم فيه حرية التصرف، أما المصالحة بين قواعدهم فإنها ملك الناس والشعب والتاريخ وخارج كل اللعبة السياسية ولا يمس بها.
ما جرى في الفترة الأخيرة من كلام وتخاطب في وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي يندى له الجبين وتقشعر له الابدان ولم يعلن فقط سقوط الاتفاق السياسي وإنما هدّد جدياً اتفاق المصالحة بين قواعد وشباب أكبر حزبين مسيحيين، وهدّد بالعودة إلى زمن الانقسامات والخيبات والى ذلك الزمن الأسْوَد، في مرحلة بالغة الدقة والخطورة تضع كل الوجود المسيحي في لبنان والمنطقة على المحك وفي مهب الريح.
لذلك نقول الى رؤساء الاحزاب المسيحية وبكل صراحة… المسيحيون غير معنيين بكل هذا الصراع الدائر على السلطة والمراكز “والتناتش” الحاصل للحصص والحقائب الوزارية، وكل هذه الجلبة الكبيرة الدائرة في البلد على النفوذ والسلطة وما سمّي “بالأحجام”.
وبدلاً من أنْ تنصرفوا إلى معارك الإلهاء وتشتيت الأنظار والأذهان والصفوف هذه، عليكم أن تهتموا بهجرة الشباب المسيحي الكثيفة، وتضعوا استراتيجية مستقبلية لقضية الوجود المسيحي النازف بشرياً واقتصادياً إلى درجة أنّه لن يعود لكم ما تتصارعون عليه وتتقاسمونه بعد فترة إذا ما بقيتم على هذه الحال …والسلام.