نزل تقرير مجلة “الإيكونوميست” البريطانية كالصاعقة على اللبنانيين نهاية الأسبوع. إقتصاد لبنان من الركود إلى الإنهيار، عنوان بدا وكأنه إنذار واضح على المنحى الذي تغاضى عنه أهل السياسة رغم تحذيرات المجتمع الدولي من زوال مقومات الصمود بعد نضال طويل.
فوجئ اللبنانيون بما يعيشونه ويعتاشون منه أزمات لا تنتهي فصولها. فهم الذين يواجهون التحديات المعيشية والإجتماعية، ويقاومون لصدّ كل ما تلفظه أزمات السياسيين، وسلسلة الرتب والرواتب أبلغ شاهد على تقسيم المجتمع الى فئات تناحرت بعد تصحيح طال إنتظاره، ولم تتدخل الدولة لحلّ ما زرعته يداها من آثام في حقّ الصالحين والمنتجين والأكفياء، على ندرتهم، حين ألحقت بهم غبنا لدى مساواتهم بمحسوبين أقحمهم التوظيف السياسي في ما لا يفقهون.
فوجئ اللبنانيون وكأنهم كانوا في حاجة إلى “صفعة” ليستفيقوا من سبات عميق أفضى إلى تعايشهم قسرا مع واقع لم يكن لهم فيه خيارًا، رغم أن الإنتخابات النيابية شكّلت فرصة لتغيير أولي، لكنهم عدلوا في اللحظات الأخيرة ليختاروا جلاّديهم مجددا تحت وقع ضغوط مورست بكل الأشكال والأنواع المتاحة وغير المشروعة.
خيارات اللبنانيين لم تكن ولا مرة نحو الإنهيار، فهم إعتادوا النهوض من تحت الركام. لكن، هذه المرة لا تشبه أيا من السابقات. فالحطام كثير، وما من ثقة قادرة على إشعال المحركات. لذا، فالحاجة إلى أكثر من صدمة إيجابية تبعد شبح الأزمة التي تحدثت عنها “الإيكونوميست” حين كتبت في تقريرها “أن لبنان متجه نحو أزمة إقتصادية فيما السياسيون يتلهّون بصراعاتهم على الحصص الحكومية التي يتوزعون عبرها المغانم بدل مناقشة الإصلاحات. وفي حين أن الإقتصاد يتجه نحو الإنهيار، قد لا يبقى الكثير لتوزيعه”!
معلوم أن إقتصاد لبنان يعتمد في نموّه على السياحة والإنشاءات والتشييد والتمويل، قالت “الإيكونوميست”. ثلاثة قطاعات تعاني كسادا مقلقا، “وقد يؤدي أي إنهيارٍ إقتصادي إلى زعزعة إستقرار بلدٍ يعجّ باللاجئين ويعاني الإنقسامات الطائفية”. فكيف السبيل إلى إنعاش القطاعات المنتجة للنمو، ونصف لبنان يقاطع نصف دول الخليج العربي المغذية لعمالته الوطنية وللدفق الإستثماري والسياحي الذي تحتاجه أي عملية نهوض؟
صفعة “الإيكونوميست” جاءت بالأرقام والدلائل. فالسياحة “التي تحاول الوقوف على قدميها”، أصيبت بنكسات لم تتح لها مقاربة أعلى مستوى بلغته في 2010 رغم بلوغها في 2017 أعلى المستويات منذ 5 أعوام. وماذا يعني تراجع سياحة الزوّار السعوديين هذه السنة بنسبة 19%، وهم الذين يستحوذون على الحصة الأكبر من الإنفاق السياحي؟ أما الإستثمار فيشهد ركودا دراماتيكيا تؤكده مسيرة التراجع التي تنامت بمعدل سنوي من 6% للعام 2017 إلى 18% للنصف الأول من 2018. وللعقار المسؤول عن فرصة عمل من بين كل 10 وظائف، حكاية أخرى مع التباطؤ الذي رفعت وتيرته أزمة القروض السكنية وحالات الإفلاس المتفشية بين الشركات المطوّرة، مع إنعكاسات مباشرة على نحو 70 مهنة رديفة لهذا القطاع.
يعاني الإقتصاد اللبناني بالفعل، تقول “الإيكونوميست”، إذ وصل الناتج المحلي الإجمالي السنوي إلى 8% عام 2010 قبل أن تتفجر سوريا، لينخفض إلى 2% وفق أكثر السيناريوات تفاؤلا. ولن تنفع خطط التمويل المحلي في معالجة مكامن الخلل، إن لم ينطلق قطار “سيدر” فعليا وفق آلية متابعة يرتقب أن تتحدّد معالمها بداية هذا الشهر في لقاء سيجمع الموفد الفرنسي بيار دوسكين مع مسؤولين لبنانيين.
لقد نبّه صندوق النقد والبنك الدولي الذي قدّم نحو 4 مليار دولار في “سيدر”، من “دقة” وضع الإقتصاد اللبناني، وخصوصا في ظل وجود قروض “عالقة” في أدراج مجلس الوزراء أو البرلمان في إنتظار تحويلها إستثمارات فعلية. وربطت غالبية الجهات الدولية والمانحة مساعداتها بسلة إصلاحات بنيوية وإقتصادية، وتحسين معدل النمو الذي سجل 1% في الأعوام الثلاثة الأخيرة مقابل 9.1% في الأعوام 2008 و2009 و2010. أما علة الدين العام فهي في تناميه المستدام الذي أوصله إلى 82.5 مليار دولار أي ما نسبته 150% من الناتج المحلي الإجمالي، ليحتل بذلك المرتبة الثالثة على لائحة الدول الأكثر مديونية في العالم. والتحذير الأهم من بلوغه عتبة الـ180% نظرا للإنعكاسات على خدمة الدين التي تلتهم ثلث الموازنات العامة، وأيضا على كلفة التمويل العام الذي ينسحب على الخاص إرتفاعا لمعدل الفوائد.
وفي التحذير من تدهور سعر النقد الوطني، بدا وكأن “الإيكونوميست” إنضمت إلى معزوفة التنبيه من أخطار محدقة بالسياسة النقدية، متجاهلة تطمينات مصرف لبنان وقدراته على الإستمرار في الدفاع عن الليرة، فيما الخلل في السياسات المالية والإقتصادية والمفاعيل التي من شأن إستمرارها أن تتهدّد الإقتصاد برمته وليس الليرة وحدها.
لم يأت تقرير “الإيكونوميست” بجديد. فهو واقع يتلمسّه اللبنانيون يوميا ويدفعون ثمنه باهظا على شكل تهالك في القدرة الشرائية التي ما عاد صدرها يتسع للمستحقات المتزايدة، وتدهور في الثقة المحلية بأن ثمة جهد لوقف الإنهيار بضغط العوامل المؤثرة، وقلق من ضبابية المستقبل في أمده القصير في ظل الخلافات التي تعصف ما بين أهل السياسة.
هي صفعة تلقاها لبنان قبل أيام، وكان يؤمل في أن تفضي إلى تصويب الإنحرافات في أداء الحكم وقراءة ما تحتويه من رسائل مغلفة أطلقها المجتمع الدولي عبر صندوق بريد “الإيكونوميست” لتحديد عناوين المرحلة المقبلة، لا أن تقضّ مضاجع اللبنانيين مع هجمة التطمينات التي أثارتها.