مسألة الخلاف مع العهد ليست مسألة شخصية، بل هي موقف سياسي ينطلق من معطيات وحقائق، من أرقام ومؤشرات، وأخيراً من تجارب وإستنتاجات!
نُقل عن رئيس الجمهورية أن المتضررين من الاصلاح يعرقلون تأليف الحكومة ، وأقل ما يُقال في هذا التصريح أنه لا يمت للواقع بصلة، فلا الاصلاح إنطلق، ولا من يعرقل بعيد عن العهد، لا بل هو في صميمه وخرج من رحمه.
ولعله المفيد أن يُسأل الرئيس عن الملفات التي إنطلق فيها الاصلاح حقاً: في الكهرباء أم النفط، في مكافحة الفساد أم الإدارة العامة، في البيئة والنفايات أم في السير والطرقات؟ هل زاد منسوب الحريات العامة في البلاد أم تقلص نتيجة الاستدعاءات العشوائية ضد من يعبّرون عن رأيهم؟
الكهرباء إمتصت على مدى سنوات ما مجموعه 35 مليار دولار أي ما نسبته نحو 46 بالمئة، وتيار الرئيس الذي تولى وزارة الطاقة والمياه منذ نحو عشر سنوات مسؤول عن ما لا يقل عن نصف هذا الرقم إن لم يكن أكثر.
أحد نواب تكتل رئيس الجمهورية أعلن بصراحة تامة أن إصلاح القطاع الكهربائي ممكن أن يُنفذ خلال ستة أشهر بكلفة أقل بكثير مما يُحكى عنه لبنانياً! وبهذا يكون قد “شهد شاهد من أهله”!
أين هو الملف الإصلاحي الذي فُتح في البلد منذ إنتخاب الرئيس عون في تشرين الأول 2016؟ من أحيل إلى القضاء؟ هل تستطيع وزارة العدل أن تهتم بهذه الملفات بدل أن تستولد دراسات مغلفة بالمواد القانونية ولكنها تعاني من الاحتباس الدستوري؟ وهل يجوز أن يصبح الدستور مطيّة للأهواء السياسية والمصالح المختلفة نستدعيه حين نريد وكيفما نشاء؟
أما الطامة الكبرى، فتلك المتصلة بإتفاق الطائف. مشكلة الرئيس مع هذا الاتفاق قديمة، لا بل تاريخية! رفضه لسنوات نازعاً الشرعية عن الرؤساء الذين إنتخبهم مجلس النواب الذي قام بحله دون أن يملك الصلاحية للقيام بذلك، ثم قبل به. لم يفسّر للرأي العام الذي أيده على رفض الاتفاق كيف قبل به، ولماذا ولأي أسباب؟
والأمر تكرّر قبيل الانتخاب. المجلس النيابي غير شرعي، وتمديد ولايته لم يكن مقبولاً، ولكن هو المجلس عينه الذي إنتخبه للرئاسة الأولى، وأقسم اليمين أمام أعضائه والقى فيهم خطاب القسم فصار رئيساً شرعياً منتخباً من مجلس نيابي شرعي…
أحد نواب “العهد القوي” فاخر بأن رئيس الجمهورية عدّل “الطائف” بالممارسة، وآخر قال في ندوة حوارية تلفزيونية أن “الرئيس القوي يخبط يده على الطاولة ويضع حداً للأمور”، قبل أن يُلجم من محاوره أن الرئيس القوي هو الذي يقف على مسافة واحدة من جميع اللبنانيين ويحمي صيغة العيش المشترك ويحفظ التوازنات التاريخية التي لا يمكن إعتبار المس بها بمثابة “نزهة”!
الرئيس القوي هو الذي يلتزم بالدستور ويؤكد على موقعه فوق كل القوانين، وهو الذي يحترم نتائج الانتخابات النيابية رغم قانونها السيء، وهو الذي لا يرضى أن يتوّج مسيرته السياسية بأن يفوّض دوره إلى سواه ممن يسيئون لموقعه وللبلد.
إعادة الاعتبار للطائف ليس خياراً بل هو ممر حتمي لحماية الاستقرار. لقد آن الأوان لدفع الأمور نحو حقبة جديدة من الاصلاح من خلال تطبيق ما لم يتم تطبيقه من الاتفاق لا سيما في الشق الاصلاحي كإنتخاب مجلس نواب خارج القيد الطائفي وإنشاء مجلس الشيوخ.
قليل من دروس التاريخ تنعش عقل الانسان!