ما وراء الأزمات الراهنة

ما وراء الأزمات الراهنة
ما وراء الأزمات الراهنة

كأنما تراكمت على لبنان، اليوم، كل القضايا والمعضلات دفعة واحدة، من أزمة اقتصادية مُحتملة، إلى مفاعيل ما ستعلنه المحكمة الدولية الخاصة باغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري (ورموز 14 آذار)، فإلى تأليف الحكومة، فإلى أزمة عودة النازحين السوريين الذين هجّرهم بشار الأسد إلى بقاع الأرض الأربع، هذه الأمور تجمّعت كدفعة واحدة تصب على رأس اللبنانيين، والدولة، والدستور، والسيادة.

 

لكن إذا عدنا إلى جوهر الأسباب الكامنة – الظاهرة وراء كل ذلك، فسنجد أن الخارجين على القوانين، والمواثيق والدولة، وحتى الكيان، هم الذين يسببون هذا الخراب السياسي، والاجتماعي، والاقتصادي. بل نجد أن مَن يتكتل أو يعيد تكتله من ذوي الكانتونات الفكرية، والمذهبية، والمرتبطين شرعاً وتشريعاً بالخارج، وجدوا ما يحفّزهم على استكمال مشروعهم (القديم) أي الهيمنة على السلطة، والمؤسسات البرلمانية والحكومية، وممارسة الترهيب المُنظّم على كل مَن يقول السيادة، أو العدالة، أو الديموقراطية، أو الوحدة الوطنية. فبشار الأسد بعد «انتصاره» المزيّف على شعبه مستجيراً بالروس وإيران وميليشياتها (حزب الله والحرس الثوري)، يُعدّ العدّة ليدخل إلى لبنان عبر النافذة بعدما خرج من الباب الواسع. وها هو يتدخّل بواسطة بعض «فلوله»، ليرسم (مع الحزب الحليف) طريق عودة مَن هجّرهم، ليستقبلهم بالأحضان، سجناً أو قتلاً، أو تصفية، أو تطويعاً قسرياً في جيشه المهزوم..

 

وها هم فلوله من «فائزين» (قلّة) في الانتخابات، وأبواق، يريدون تجاوز الدولة في قضية النازحين التي تسعى إلى عودتهم بأمان وضمانات. وها هو حزب إيران يتولى هذه المهمّة، ليتنكب مسؤولية «إدارة» هذه العودة. (فالحزب يُعيد مَن شارك في تهجيرهم وتدمير منازلهم، وقتل أهلهم إلى سوريا بأمان، وأي أمان!)، محاولاً بذلك فتح «طاقة» للتطبيع اللبناني مع نظام الأسد، أي التطبيع مع مَن مارس وصاية ثلاثين عاماً على البلد، متحكّماً بمقدراته بالبطش والقتل والنفي، وناهباً خيراته مع لصوصه. يريد الحزب أن يُطبّع العلاقات مع الأسد، الذي أرسل ميشال سماحة محمّلاً بالمتفجّرات ليرتكب بها مجازر تؤدي إلى فتنة مذهبية. النظام الذي قتل كمال جنبلاط، وحسين مروة، ومهدي عامل وهدّد الرئيس رفيق الحريري وجنبلاط بتدمير البلد على رأسيهما، إذا لم يمدّدا لحليفه المقدّس الرئيس اميل لحود.

 

وصاية كانتونية

 

كأنه (حزب الله) يستعيد الوصاية لتلتقي كانتونه المسلّح على الدولة: الكماشة التي تلتف على لبنان وتخنق شعبه وقيمه وتاريخه وسيادته. فالحزب والنظام السوري (امتداداً إلى إيران) يريدان أن يدمّرا الكيان اللبناني هذه المرّة، ويعزلا شعبه عن محيطه العربي، وعن العالم. بل هما حزبان «كانتونيان» مذهبيان، الأسد حوّل سوريا إلى كانتون كبير، وحزب الله يريد أن يبني دولته الكانتونية المذهبية على أنقاض لبنان المتعدّد. هناك الحزب الواحد والقائد الواحد (بشار)، وهنالك الحزب الواحد والقائد الواحد (نصرالله) (تيمناً بنظام الملالي في بلاد الفرس).

 

الخطاب

 

من هنا يمكن الدخول إلى خطاب الأمين العام للحزب الذي سبق أن وقّع على قرار المحكمة، ومسح توقيعه، مهدّداً اليوم كل مَن يؤمن بالعدالة في مسألة الاقتصاص من القتلة، بالترهيب والويل والثبور «لا تلعبوا بالنار». فاللاعب الأكبر بالنار (والمغامرات المفرقعة) يُهدّد المجتمع المدني، والأحزاب والعزلاء من السلاح، والشعب الذي ينتظر نتائج التحقيقات التي أجرتها المحكمة الدولية.. بعقاب «ناري»، قد يكون «أرهب» من غزوة الحزب بيروت والجبل (ردّاً على قضية الاتصالات الخاصة بدولة الحزب)، في 7 أيار المشؤوم. وهذا يظهر من جديد رفض الحزب لكل قانون، أو هيئة قضائية (ليس المحكمة الدولية فقط)، بل لبنان: نتذكر أنه تم إحراق جريدة «المستقبل» وتلفزيون «المستقبل».. كفعل مقاومة! «ضد العدو الإسرائيلي»! (لم تطلق رصاصة واحدة على إسرائيل منذ عشر سنوات، تماماً كالجولان منذ أكثر من أربعين عاماً). فإسرائيل صارت وراءهم، ولبنان والعرب والخليج (خصوصاً السعودية) واليمن أمامهم. حلَّ الوراء محل الأمام! أما لماذا وافق الحزب على المحكمة الدولية ثم تنكّر لموافقته (تماماً كما وقّع على إعلان بعبدا الداعي للنأي بالنفس عن الصراعات الخارجية وتحديداً العربية ثم تنكّر له)، فلأنه فوجئ بالقرار الإيراني الذي يعلو كل قرار له: أمرته إيران بالذهاب إلى سوريا لإنقاذ بشار الأسد من ثورة شعبه. فذهب ماحياً كل تواقيعه. ونظنّ أن مَن ليس قراره في يده من الصعب أن يلتزم أي وعد. أكثر: ظنّ الحزب أن المحكمة الدولية لن تتوصّل إلى ما توصلت إليه من اكتشاف هويات وخيوط وأشخاص شاركوا في عملية الاغتيال، وهم «قدّيسو الحزب» الأبرار (لماذا لا يكون كلّ قاتل أو طاغية أو عميل قدّيساً.. فيبدو أن المسافة ملغاة عند الحزب)، أربعة متورطين من الحزب في العملية. وصرخ السيد حسن «إنهم قدّيسو المقاومة»، وهم أبعد مسافة وأعلى مقاماً من أن تُمس قداستهم باتهام! ومَن لا يتذكّر فصول التضليل التي لعبها الحزب ونظام الأسد لحرف الأنظار عن المجرمين الحقيقيين وخداع المحكمة: من «أبو عدس»، إلى الحجاج الاستراليين، إلى قصف إسرائيل موكب الرئيس الحريري بالطائرات، إلى انفجارات من تحت الأرض، حتى وصل الأمر بجريدة «تشرين» (المقاومة أيضاً ولو!) إلى اتهام بقتل والده.. أو أن مقتل الحريري نتيجة خلاف مالي بينه وبين آخرين!

 

محكمة عضومية

 

كل هذا لم يجدِ نفعاً، فالمحكمة الدولية ليست كما تصوّر الحزب ونظام الأسد: كأنها محكمة عضومية، أو محكمة ملالية في إيران، أو محكمة حزبية في سوريا.. تُعلن هذا الشهر نتائج تحقيقاتها المرحلية. وها هو الحزب الذي يتنكّر كل يوم للدستور والقضاء والقوانين، يسبق القرار بتهديد الجميع «لا تلعبوا بالنار»، أي ارفضوا المحكمة تسلموا. تماماً «لا تلعبوا بالنار» أي اقبلوا سلاحنا تسلموا، كمنطق الوصاية السورية: الأمن مقابل السيادة!

 

وتفسير الأمر بسيط: مَن يتواطأ ويشارك الأسد قتل شعبه وتهجيره وتدمير سوريا، هل تريدونه ألا يتواطأ مع مغامراته؟! كأن العنف صار عند الحزب (كما عند خامنئي وبشار) طريقة حياة ونمط تفكير.. وإثبات وجود، وتعزيز حضور وترسيخ «إيمان» عميق يبدأ من الأرض الفانية إلى الجنّات الخالدة.

 

الابتزاز

 

ونظن أن كل هذه «الافتعالات» والمخططات تجمّعت الواحدة بعد الأخرى، على تفاوتاتها، لفرضها على رئيس الحكومة المكلّف سعد الحريري، فاللحظة مناسبة وتاريخية بالنسبة إلى جماعة 8 آذار الذين ينظمون صفوفهم تحت رايتين ملالية وأسدية: نحن الأكثرية النيابية، والزمن زماننا، والوعود التي أطلقت بسخاء من جميع هؤلاء عند التكليف تبدّدت لأنها كانت أصلاً مجرّد خدع وأكاذيب وشطارة (غبيّة)، وأساليب صغار قديمة وهرمة.

 

المهل

 

وها هم (برعاية الحزب)، يُهدّدون بالمهل المنتهية لتأليف الحكومة، من خلال «اجتهادات» قانونية لا تتجاوز الدستور فقط بل تُعدمه. وها هو نصرالله يبرّر القضية: إذا كان هناك حكومات سابقة استغرقت طويلاً لتأليفها، فليس من الضروري أن تصبح قاعدة. التهويل على الحريري لإخضاعه لمطالبهم وطموحاتهم. ومع هذا يُطالب السيد نصرالله بالإسراع في تأليف الحكومة وإزالة العقبات من دروبها! رائع! من ناحية يتوعّد بالنار هذه المرّة، ومن ناحية أخرى يبدي نيّاته الحسنة ومساعدته على تجاوز الأزمة. ونظن أن وراء هذه «الازدواجية» تحميل الحريري مسؤولية المشكلة. وهناك، ربما، ما هو أخطر من ذلك: يمكن استشفاف «اجتهادات»، في العمق، وكأنه جس نبض لمحاولة «تسريب» حكم رئاسي هنا، وآخر موجود في دمشق، وثالث كانتوني؛ فيزدحم الحكم بالرئاسات المطلقة، على حساب الدستور، والبرلمان، والحكومة.. والسيادة.

 

هذا الخطر الداهم راسخ في تطلعات نظام الأسد (البائد)، وحزب الله (بمباركة إيران)، وبعض حلفائهم، نظام أمني مركزي، عسكري، بثياب مدنية هنا، وبأزياء ميليشيوية هناك، وبخلفية ديكتاتورية وراء كل هذه المشهديات.

 

الفلول

 

ونظن أن فلول 8 آذار يسعون اليوم، عبر محاولات إفشالهم سعي الحريري لتأليف الحكومة «اختراع» حكومة «ظلّ»، أو حكومة صورية، تكون مطية سهلة لمختلف الودائع الأسدية، هدفها تدمير الكيان اللبناني ككل. فالمسألة تجاوزت أن تكون مجرّد أزمة حكومية، إلى أزمة كيان ونظام وحكم وسيادة.. فالإرث العالي الذي حصدته 14 آذار من تحرير الشارع، إلى تحرير الإرادة اللبنانية، إلى عودة الارتباط بالمحيط العربي والانفتاح على العالم، هذا الإرث الذي يُشكّل المسافة التغييرية عند نظام الوصايات، هو المُهدَّد. كأننا اليوم، عام 1975، حيث تتهيّأ الظروف لتصفية الإرث اللبناني وإعادة البلد إلى مناخات ظنّ اللبنانيون أنها تجاوزتها عبر الطائف. فليدمّر الطائف. وليدمّر إرث 14 آذار.. وتعود مجاري «الوصايات» والاستبداد، وإعدام القِيَم الجمهورية، إلى سابق عهدها الأسدي – الفارسي.

 

هنا بيت القصيد! لكن ما هو مطمئن، أن الحريري يقاوم كل هذه «الاجتهادات» (وما خلفها)، لاستشعاره بخطورة ما يُخطط له هؤلاء. وها هو يُعلن صموده ومقاومته لكل هذه الأشكال الاستبدادية التي تريد إرجاع عقارب الزمن إلى الوراء.

 

فالحريري ليس وحده في البداية والنهاية!

 

بول شاوول

اشترك فى النشرة البريدية لتحصل على اهم الاخبار بمجرد نشرها

تابعنا على مواقع التواصل الاجتماعى

التالى أميركا للبنان: أعلنوا وقف إطلاق النار من جانب واحد!