نسمع أو نقرأ من حين إلى آخر هنا وهناك، ما مفاده أن السوريين المناهضين لحكم بشار الأسد وحزب البعث قد أضاعوا فرصة الانتصار نتيجة تشرذمهم، وعدم قدرتهم على توحيد الصفوف والطاقات، ليتحولوا لاحقاً إلى أدوات بيد الدول وأجهزتها التي استخدمتهم مجرد واجهات لتمرير ما تم التوافق عليه. توافقات لا تقيم وزناً لتضحيات السوريين الجسمية التي قدّموها على مدار أكثر من سبع سنوات.
وللتوضيح ضمن هذا السياق نقول: إننا لم، ولن، نزعم أن الأطر السياسية التي ظهرت في خضم الثورة كانت مثالية متكاملة، تجسّد المطلوب. بل بيّنا باستمرار أنها كانت مشاريع مفتوحة لتشكيل مجموعة قيادية متماسكة، قادرة على التوفيق بين طاقات السوريين التوّاقين الى الحرية، وتعمل على تركيزها في مواجهة النظام. وتسعى في الوقت ذاته، من أجل حشد تأييد الرأي العام العربي والدولي لمصلحة قضية شعبها.
فقد بيّنا منذ اليوم الأول، أن المشكلة الأساسية التي تواجه السوريين الثائرين على الحكم الفاسد، تتمثّل في عدم وجود أحزاب سياسية ومنظمات مجتمع مدني قوية بمصداقيتها وبقاعدتها الشعبية، وقادرة على وضع الخطوط الأساسية لاستراتيجية تكون في مثابة خارطة طريق للتعامل مع الوضعية الصعبة بغية الخروج منها بأقل الخسائر.
لكن مع ذلك، بُذلت جهود كبيرة من أجل تجاوز هذه العقدة. وكان التحرّك في مختلف الاتجاهات من أجل دعم دولي مساند للشعب السوري، ومدافع عنه في مواجهة نظام وحشي، لم، ولن، يتورع عن ارتكاب أفظع الجرائم من أجل البقاء.
وقد أنجز المجلس الوطني السوري على رغم ضعف الإمكانات، وقلة الخبرة والسلبيات الكثيرة التي كان يعاني منها، الكثير على طريق جمع كلمة السوريين. وحافظ على استقلالية القرار ضن حدود المستطاع. وكان في مقدوره أن يفعل الأكثر إيجابياً.
إلا أنه كان من الواضح والمؤكد أن الموقف الدولي منذ البداية لم يكن في مصلحة السوريين، فكانت الذرائع المتواصلة، والمطالب المستمرة من جانب الدول المؤثرة في المجموعة التي أعلنت عن نفسها صديقة للشعب السوري، بضرورة العمل من أجل تقديم البديل المقنع.
وما تبين لنا في ما بعد، أنها لم تكن مقتنعة أصلاً بعملية التغيير، بل كانت تسعى الى احتواء ثورة السوريين، وتهدد بما ينتظرها من التشدّد والإرهاب. هذا في حين أنها تجاهلت، من موقع العارف، الدعم اللامحدود الذي كان النظام يحظى به من جانب حلفائه.
فالمشكلة إذاً لم تكن في السوريين، وصعوبة توافقهم واتفاقهم. وإنما كانت تتجسد أساساً في عدم وجود إرادة دولية تدعم عملية تغيير النظام في سورية، وذلك لأسباب عديدة يعرفها الجميع.
الحالة السورية هذه تتماثل وتتقاطع في أوجه كثير منها مع الحالة اللبنانية قبل، وبعد، اغتيال الرئيس رفيق الحريري، الذي جاء ليكون ذروة الاغتيالات التي كانت تتم في ذلك الحين في لبنان. وهي اغتيالات شملت شخصيات سياسية وثقافية مناهضة لوجود قوات النظام السوري ونفوذه الأمني في لبنان.
فقد تمكنت قوى 14 آذار في ذلك الحين، من استقطاب الجمهور الأوسع من اللبنانيين من مختلف الطوائف والتوجهات السياسية. وكانت القوى والأحزاب السياسية الأساسية بزعاماتها المعروفة هي التي تقود اللبنانيين المطالبين بالخروج السوري العسكري والأمني من لبنان. وقد تحقق هذا المطلب في خضم التحرك الشعبي العارم، وذلك بفضل التعاطف والضغط الدوليين، لا سيما من جانب فرنسا بزعامة جاك شيراك. وتشكلت لجنة دولية، كما نتذكر جميعاً، للتحقيق في موضوع الاغتيال أو الاغتيالات. وكانت تقارير ميليس موضوع اهتمام الجميع تحليلاً، ودراسة، وتوقعاً.
وذلك كله ترافق مع وجود نحو 150 ألف عسكري أميركي في المنطقة بعد إسقاط حكم صدام حسين. وتصدّر المحافظون الجدد المشهد أميركياً، ودولياً، بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وتخبّطت روسيا في جملة مشكلاتها الداخلية.
واعتقد كثيرون منا أن التغيير قادم إلى المنطقة، وأن مجتمعاتنا ستبدأ بعملية الدمقرطة، لتتمكّن من تجاوز مشكلاتها، وتتفرّغ لقضايا التنمية التي من شأنها ضمان فرص التعليم والعمل للأجيال الشابة، وذلك كله يصادر بطبيعة الحال على الإرهاب وذرائعه، ويجفّف مستنقعاته.
لكن الذي تبين لنا في ما بعد، أننا كنا تحت تأثير منطق التمنيات، والرغبات، والأحلام الوردية التي كانت تحلق في عوالم جميلة، لا علاقة لها بعالم الحسابات والمصالح. فلجنة التحقيق المشار إليها باتت جزءاً من الماضي المستبعد الذي قد يستخدم، بمقادير مدروسة، حين اللزوم. وعاد حزب الله بعد فترة كمون، أعقبت الخروج السوري من لبنان، إلى الواجهة، ليستعرض قواته في بيروت والجبل. وأجبر الحريري الابن كما نتذكر جميعاً، في سياق التفاهمات القسرية التي كانت، على تمضية ليلة، ولا أصعب منها، ولا يحسد عليها، مع المسؤول عن اغتيال الحريري الأب، وذلك في رسالة أفهمت الجميع، بخاصة ميشال عون خصم النظام السوري السابق وحليفه الحالي، بأن التغيير المنشود لن يكون. وأن السياسة المعتمدة أميركياً في لبنان وسورية ما زالت هي هي، سياسة محورها تغيير سلوكية النظام السوري، وليس تغييره هو نفسه.
ولعله من اللافت أن مصطلح تغيير السلوكية عاد إلى الظهور هذه الأيام مجدداً في سياق التشدد الأميركي مع النظام الإيراني، بعد أن تمكّن هذا الأخير من زعزعة استقرار وأمن دول المنطقة بأسرها ومجتمعاتها.
والاعتقاد السائد هو أن هذا التشدد سيستمر إلى حين الاتفاق على صفقة مع النظام الإيراني، الذي يثبت سجله أنه هو الآخر لا يقل براغماتية عن النظام السوري، فكل شيء في عرفهما مباح من أجل البقاء.
أما لغة الشعارات التي يعتمدها هذا النظام أو ذاك، فهي تعد جزءاً من» عدة الشغل» هدفها استهلاك محلي، وتجييش مذهبي، قوموي، لمصلحة مشاريع لا تخدم أمن المنطقة وسلامتها.
إننا إذا عدنا إلى العام الأول للثورة السورية، وتابعنا المواقف والتحركات الدولية التي كانت في حينها، واستمرت في أشكال متباينة في السنوات اللاحقة، وصولاً إلى يومنا هذا، ندرك أن سياسة إدارة الأزمة التي اعتُمدت منذ البداية ما زالت مستمرة، وهي سياسة استنزفت الطاقات، وتسببت وتتسبب بتدمير سورية، وتشريد أكثر من نصف شعبها، لكن مع هذا نسمع هنا وهناك أصواتاً تدعو إلى التكيّف مجدداً مع وجود نظام بشار باعتباره أهون الشرين، أو أن السلام الناقص أفضل من الحرب، على حد تعبير الرئيس كارتر في مقال له أخيراً حول الموضوع ذاته.
وكما اختزلت تضحيات اللبنانيين ومطالباتهم في لجنة تحقيق غدت في حكم المنسي، ها هي مطالب السوريين وتضحياتهم تختزل اليوم في لجنة دستورية، لجنة لن يتمخض عنها، في أفضل الأحوال، سوى دستور شكلي، لن يتم العمل به في ظل نظام أمني قمعي، ما زال هو المهيمن والمتحكّم في مفاصل الدولة والمجتمع.