وفي الشهر الثالث على التكليف، يبقى التأليف عاصيا على لبنان. لا حكومة ولا مَن يحزنون. فالمناكفات بين الأقطاب السياسيين على أشدها، ولا من تنازلات عن حصص أو مقاعد يمكن أن تفرج عن “حكومة العهد”. قد يكون الإنتظار “محرزا” بالنسبة إلى بعضهم إن إستوت شؤون سوريا على توافق دولي يعيد بعضا من هدوء أمني من شأنه تحديد اللعبة واللاعبين الجدد. لكن، للوقت كلفة باهظة إقتصاديا، وخصوصا لبلد ما كاد يتغنى بإحتلاله المرتبة الرابعة عالميا في تعليم الرياضيات والعلوم، حتى أطاحت به الكهرباء حين دفعته الى المرتبة 134 عالميا (من اصل 137) وفق مؤشر “الثقة بإمدادات الكهرباء”، أي ما يعني عدم وجود إنقطاع وإنعدام تذبذب التيار.
لم العجلة؟ لقد إنتهى الموسم الصيفي الذي يعوّل عليه الإقتصاد من اجل نهضة تعينه ليتسلق درجات النمو، درجة درجة. سياح لبنان من المغتربين لم ينقطعوا كعادتهم في كل موسم ومناسبة. لكن الكثير منهم قصّر مدة الإقامة هربا من سموم تعبق بها الأجواء المحلية، ولجأ الى وجهات أخرى، قريبة وأقل كلفة وأكثر نظافة. أما فئة العرب والأجانب من السياح، فلا تزال خجولة وتنحصر بالفئات الأقل إنفاقا. وهذا غير مجد لتعزيز حصة السياحة من الناتج المحلي الإجمالي. وها هو أيلول، طرفه بالأثقال مبلول، والمدارس الحلقة الأضعف ماديا ومعنويا بعد “ضربة” سلسلة الرتب وصرف المئات من المعلمين تخفيفا لتكاليف تشغيلية ترهق الإدارات الراغبة في رفع الأقساط.
في الوقت الضائع، ما من تفكير جدي او عمل حثيث، أقله ظاهريا، لدفع لبنان نحو “سيدر” وتوصياته. كل ما تلفظه السياسة يدور في فلك الصراع على تقاسم السلطة. والرائج في القاموس الإقتصادي، المطالبة بـ”التوسعة”: توسعة مطار بيروت الدولي، توسعة الحوض الرابع في مرفأ بيروت، توسعة حجم الإقتصاد…
كيف السبيل الى كل تلك الإضافات؟ وما الهدف أو الكلفة التي ستترتب على الإقتصاد؟ في المطالبة حاجة من واقع لم يعد يتسع. لكن، مَن يضمن أن تلك التوسعات لن تأتي على حساب الخزينة، صفقات مشبوهة تزاد إلى الموجود، ويفيد منها بعض القيمين والمحسوبين وتحديدا الذين “مش عاملين حساب لحدا”، وتدفع ثمنها خزينة الدولة عجزا إضافيا وكل اللبنانيين رسوما وضرائب جديدة لن تفي بالغرض، لأنها لن تسدّ العجز أو تخفّف منسوب تراكمه؟
قبل الشروع في ترجمة أي من الوعود التي أُغدقت خلال الإنتخابات النيابية وصدّقها 49% من اللبنانيين فقط، يجب الإقتناع بأن حبل الخلاص من الضائقة لا يبدأ الا بمكافحة الفساد وتطبيق الإصلاحات التي يطلقها لبنان امام المجتمع الدولي في كل مناسبة دعم، ويدرك أنها لن تصبح واقعا إلا بقرار سياسي واضح وجريء. فالنهضة الإقتصادية لا تقوم على عفن الفساد ولا على روائحه التي تسمّم مناخ الأداء الرسمي، وتشرّع سمسرات العاملين فيه وحتى المتعاملين معه.
لا نفع من كل الخطط التي أقرّت وما جاءت بجديد، ولا من تلك التي يُمهّد لها لتولد قريبا وبتكاليف أكبر. لا نفع من كل الخطابات والوعود بالإصلاح وبالقضاء على الفساد، ما لم تؤكد الدولة جديتها في شنّ حرب على الفاسدين والمفسدين والبدء بأهل البيت الكبار لا صغار الموظفين. لا نفع من التقاتل السياسي أو الغيرة على مصالح اللبنانيين وعلى مستقبل أولادهم، إن لم يتوقف التقاتل على تقاسم ثروة البلاد وعلى إقتسام المغانم والمدخرات من دون إستئذان، وعلى شكل شائعات تستهدف في معزوفة مستمرة منذ أشهر، النيل من إستقرار الليرة مجانا وتهديد مدخرات اللبنانيين.
توسعة حجم الإقتصاد وقطاعاته تبدأ من توسعة السراط المستقيم وضرب الفساد من أجل إستعادة الثقة، حيث تصويب الإعوجاج هو الحاجة الملحة اليوم قبل الغد، بدل أن يتركز الجهد الرسمي على توسعة طول بال اللبنانيين غير القادرين على تحمّل وتمرير أزمة ضلّت طريقها نحو الحلحلة.