تركيا ليست على شفير الإفلاس رغم فقدان ليرتها نصف قيمتها منذ بدء العام، ورغم مسارعة الرئيس رجب طيب أردوغان الى مناشدة الأتراك تحويل مدخراتهم بالعملات الأجنبية لدعمها. ولا إيران إرتضت لإقتصادها الإستسلام أمام ضغوط إنفراط عقد الاتفاق النووي، فإستقبلت هي وحلفائها (روسيا والصين وتركيا) الحزمة الأولى من عقوبات واشنطن، وتقاوم لدعم ريال فقد نحو ثلثي قيمته منذ مطلع العام وهزّ الشارع إحتجاجات زادت مخاوف المستثمرين الأجانب. أما فنزويلا الغارقة في وحول الركود نتيجة سياسات الحصار التي تمارسها على نفسها مقاطعة لأميركا، فلم تجد ملجأ سوى في “خمسة أصفار” لتنتشل عملتها البوليفار المنهكة وسط توقع صندوق النقد وصول التضخم إلى مليون في المئة نهاية العام!
ثلاثة إقتصادات على مشارف السقوط والإنهيار. هي نماذج حية لما تؤول إليه الأمور حين تُطبق السياسة على الاقتصاد وتخلع عنه ثوب النمو والإزدهار. تلتقي تلك الإقتصادات عند قاسم مشترك هو العقوبات الأميركية التي عادة ما تثير الهلع في نفوس أصحاب الأموال والأعمال فيهربون نحو “مقاصد آمنة”، فتنسحب مفاعيلها على العملات الوطنية قبل أن تطول كافة مفاصل الإقتصاد. وهذا ما يسمى “زعزعة الثقة” بأداء السلطات الحاكمة التي ستعجز في إلتقاط أنفاس تلك الثقة بغية ترميمها مهما قدمت من حوافز.
لا يمكن التنبؤ بما ستؤول إليه الحروب الإقتصادية التي تستهدف العبث بمناخ الإستثمار. هي قصص من تاريخ العالم الحديث الذي دخل طوعًا في حروب متنقلة تغنيه عن حرب كونية ثالثة تدمّر ما بُني لعقود، وتعود إلى مراحل إعادة الإعمار والنهوض.
ليس صحيحًا أن بعضًا من حركة قطاعات نشطة، وفي مقدمها السياحة، قادر على تعويض الخسائر الجسيمة أو “المفاعيل”. وفي حال الدول الثلاث، تبقى تركيا وحدها على الخريطة السياحية كمقصد “رخيص” لإنفاق الدرجات الدنيا لكنها تعاني بدائل كثيرة. أما إيران التي خسرت موقعها السياحي منذ ثورة الخميني، فتحتاج تغييرًا شاملًا في “موديل” الحكم، كما هي حال فنزويلا المغلقة بقرار ذاتي “نكاية” بأميركا حتى ولو كان الخروج نهائيا من لائحة السياحة العالمية هو الثمن.
تؤكد دراسة حالتين من تلك، أن التراكم لا بد أن يفضي إلى إنفجار. فالليرة التركية لم تتهاو على خلفية توقيف القسّ الأميركي أندرو برونسون فحسب، إذ يعود الإضطراب الإقتصادي إلى أسباب عديدة، قد يكون آخرها إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترامب مضاعفة التعريفات على المنتجات التركية ردا على رفض أنقره التفاوض مع واشنطن بشأن القسّ. فالليرة مرّت بضغوط حين أفرطت الشركات التركية في الإقتراض من البنك المركزي بالدولار، مدفوعة بتشجيع أردوغان الذي اعتمد على إستمرار البنك في الحفاظ على الإقراض بمعدلات فائدة منخفضة، مما تسبب بتراكم ديون الشركات إلى 220 مليار دولار. وتأثرت الليرة أيضا بنمو المخاوف من سيطرة أردوغان على السياسة النقدية بموجب ولاية رئاسية جديدة يتمتع فيها بصلاحيات واسعة.
كذلك، لم يكن وزير المال برات البيرق، صهر أردوغان الذي ساهم تعيينه في عزوف المستثمرين، على مستوى التحدي الإقتصادي. ففيما كانت الليرة تنهار، تمهّل البيرق أسبوعا قبل أن يطرح برنامجا إفتقر إلى إقتراحات إصلاحية محددة. وفي كل ذلك، بقي البنك المركزي متفرجا بعد آخر مرة رفع فيها الفائدة في 7 حزيران، لتفقد الليرة من حينه نحو نصف قيمتها.
في طهران أيضًا، تعرّض البنك المركزي لإنتقادات شديدة بشأن تعامله مع أزمة انهيار الريال، لكنه ألقى باللائمة على “مؤامرة من الأعداء الساعين لزيادة تفاقم المشكلات الاقتصادية”. ولم يكتفِ الريال بإقالة حاكم المركزي ولي الله سيف ومن بعده “مسؤول العملات الأجنبية” في المركزي أحمد عراقجي، بل واصل إنحداره في مسيرة يرجح إستمرارها مع بدء العقوبات. إذ فرضت واشنطن قيودًا على بيع الدولار الأميركي لإيران، وشراء الذهب والمعادن الثمينة من إيران وإستيراد المواد الغذائية والسجاد والصلب والألومنيوم والاستثمار في السندات الإيرانية، وإبرام صفقات مع شركات صناعة السيارات الإيرانية. وستسحب واشنطن تراخيص التصدير من شركات الطيران المدني، أي “بوينغ” و”إيرباص”. وبعد 180 يومًا، ستطال العقوبات الموانئ الإيرانية وسفنها ومصانع السفن. كما ستفرض قيود على تحويلات مالية بين المؤسسات المالية الأجنبية والبنك المركزي الإيراني وخدمات التأمين.
هي العقوبات “الأشد على الإطلاق”. وأكثر، أكد ترامب “أن كل مَن يجري معاملات مع إيران لن يجري معاملات مع أميركا”. وبما أن الشركات الأميركية العاملة في إيران هي قليلة، فإن تأثير أي عقوبات يعتمد على قدرة واشنطن في منع الشركات الأوروبية والآسيوية من العمل في السوق الإيرانية.
بسرعة، أعلنت شركة “دايملر” الألمانية لصناعة السيارات أنها أوقفت أنشطتها “المحدودة” في إيران تماشيًا مع العقوبات، لتتخلى بذلك عن إتفاقها مع شركة “إيران خودرو” أوائل 2016 لتجميع وتوزيع سيارات “مرسيدس بنز” في إيران. كذلك، إمتثلت شركة “بي أس أيه” مالكة “بيجو” لتسقط عقود إنتاج وقعتها عام 2015 وهي بقيمة 811 مليون دولار. وعلى الخطى سارت شركة “رينو” الفرنسية وإتجهت نحو فرص إستثمارية في أفريقيا تعويضا. أما “توتال” النفطية الفرنسية فكانت أعلنت أنها ستتخلى عن مشروع بمليارات الدولارات في حقل غاز “فارس” إن لم تتمكن من الحصول على إعفاء من العقوبات.
وبعدما سلّمت خمس طائرات للخطوط الإيرانية قبل بدء سريان العقوبات، ستجد شركة “أيه تي آر” الفرنسية الإيطالية، صعوبة في تسليم سبع طائرات أخرى بسبب العقوبات. وإنتظرت شركتا “سانوفي” و”روشيه” الفرنسيتان للأدوية تطبيق العقوبات لتعليق نشاطهما في إيران. وتقول شركة “نستله” السويسرية إنها لن تتأثر بدافع من قرار حكومتها المعارض للعقوبات، وهي تملك مقرا في طهران ومصنعين في قزوين وبلور.
وفي فنزويلا الخاوية من الإستثمار الأجنبي، حكاية أخرى تقصّ فصولا من معاناة بلد تحوّل من مقصد للسياحة والإستثمار وتجميع الثروات، إلى بلد يأكل أبناءه…
هذا غيض من فيض أوخام العقوبات. وحين يتلهّى بعضهم بـ”التنقير” على الليرة اللبنانية لغايات ضيقة، عليه أن يتبصّر في ما يجري ويتقي شرّ العقوبات وأصحابها.