انتخابات النكاية… من حاصبيا إلى خلوات البياضة

انتخابات النكاية… من حاصبيا إلى خلوات البياضة
انتخابات النكاية… من حاصبيا إلى خلوات البياضة

فراس الشوفي – الأخبار

 

 

تُعَكِّر السياسة مزاج وادي التيم المعهود. الانتخابات هذا العام، والعصبيات المستنفرة على المقلب اللبناني من جبل الشيخ، أخذت من العَكَّوب الجبلي احتكاره لأحاديث الصباح وجلسات «المتة» في البيوت الوادعة

حاصبيا الواقعة في مثلث الشام وفلسطين ولبنان بين الجولان والجليل وجبل عامل، تحتل مع مرجعيون صدارة الصورة في دائرة الجنوب الثالثة. قبل أسبوع من موعد الانتخابات، تستنفر عاصمة الأمراء الشهابيين لتمنح رقعةً أخرى للكباش الذي يتسارع في الساحة الدرزية. استبدلت القرى نأيها المعتاد عن يوميات السياسة اللبنانية، لتنهمك في مواجهة درزية ـــ درزية، تكمّل التطوّرات الجديدة في الشوف وعاليه.

ليس عابراً أن يعقد رئيس الحزب الديموقراطي اللبناني النائب طلال أرسلان حلفاً مع الوزير جبران باسيل، فيرفد تحالف الرئيس وباسيل بجناحٍ درزي في حمأة المواجهة السياسية بين الشريكين ورئيس الحزب التقدمي الاشتراكي النائب وليد جنبلاط، حول الموقع والدور. ولكي يزداد المشهد تعقيداً، أنتج التحالف المستجدّ تشكيل لائحة في مواجهة لائحة حلفاء باسيل وأرسلان المفترضين، حزب الله وحركة أمل والحزب السوري القومي الاجتماعي. نجح الحريري بذلك في مهمّته الثانية من دفتر الشروط السعودية: مواجهة حزب الله في الجنوب بعد البقاع.
الربيع كسا السفوح المالسة على ضفتي نهر الحاصباني، وشجر الرّمان انفجر زهراً أحمر حول الجسر بين النهر ومدخل حاصبيا، وخطوط الثلج فوق جبل الشيخ تقرّب السماء من قمم الجبل المعبد. لكنّ صور المرشّحين تحاصر الطرقات والحيطان والمعالم العامة والخاصة. لم يوفّر النائب أنور الخليل زاوية إلّا وزرع صوراً ولافتات فيها تسوّق له وللحزب الاشتراكي وجنبلاط. مثله فعل وسام شرّوف، مرشح الأرسلانيين عن المقعد الدرزي على لائحة تحالف باسيل ـــ الحريري، الذي تلازمت صوره مع صور أرسلان. صور النائبين أسعد حردان وقاسم هاشم أخذت حيّزاً من المشهد، وعلى نحو أقلّ ملصقات النائبين علي فياض وعلي حسن خليل، بما لا يقارن بالمساحة التي احتلتها ماكينات المرشّحَين الدرزيَّين في المنافسة الدعائية.

منذ ما بعد اتفاق الطائف، والخليل يمثّل مقعد الدروز في حاصبيا. هو تقاطع أساسي بين جنبلاط والرئيس نبيه بري في تحالفهما الدائم، الذي يزداد تماسكاً وارتباطاً في الآونة الأخيرة، كلّما اشتد التقارب بين الحريري وباسيل. خلال السنوات الماضية، سرت شائعات كثيرة عن أن الخليل سيعتكف عن الترشّح بسبب سنّه وأوضاعه الصحيّة حين اختفى لسنوات في بيروت، وأن ابنه زياد هو صاحب النصيب في وراثة النيابة. خابت الشائعات، وعاد الخليل إلى الترشّح. يخاله الحاصبانيون الآن عاد شاباً، وهو يتنقل من بيت إلى بيت في رحلة تجميع الأصوات التفضيلية، ويقولون إنه أخيراً «فكّ الدّكة»، وبدأ يغدق بالأموال على شراء الأصوات، من حاصبيا إلى العرقوب والخيام والعديسة، من دون أن يوفّر حتى ناخبي زملائه في اللائحة، من محاولات شراء أصوات ناخبيهم.
غير أن المقعد الدرزي في حاصبيا لم يغب عن عين أرسلان في السنوات الماضية، حيث للحالة اليزبكية التقليدية جذور حافظت على امتداداتها مع «دار خلدة» في وجه التمدّد الجنبلاطي، وتعزّزت في ظلّ الوجود التاريخي للحزب القومي، الذي تعمّد بمقعد حردان النيابي. استعر الصراع اليزبكي ـــ الجنبلاطي والقومي ـــ الاشتراكي في سنوات ما بعد التحرير عام 2000، في الاستحقاقات البلديّة، على شكل تنافس حاد مضبوط تحت سقف تفاهم بعدم الصدام، الذي إن وقع لتطوّر «دراماتيكياً» في القرى. لكنّها المرة الأولى التي تحتدم فيها المواجهة على المقعد الدرزي، ويكون فيها الأرسلانيون على ضفة مقابلة للقوميين، يمنحون أصواتهم للائحةٍ عمادها مرشّح الحريري عماد الخطيب ابن بلدة شبعا، فيما سيضطر الاشتراكيون إلى منح أصواتهم للائحة عمادها مرشحو حزب الله.

أرسلان ينتهز الفرصة
منذ أقرّ القانون الانتخابي الجديد، شعر أرسلان بأن الفرصة التي ينتظرها منذ سنوات للفوز بمقعده في عاليه من دون منّة من جنبلاط قد آن أوانها، وبات بإمكان وريث الزعامة الأرسلانية أن ينافس جنبلاط على مقاعد درزية أخرى أبرزها حاصبيا، لتحقيق توازن نيابي مفقود، على ما تقول مصادر بارزة في الحزب الديموقراطي اللبناني. غير أن البحث في علاقة أرسلان بجنبلاط، والأسباب التي دفعت رئيس الديموقراطي في الماضي إلى التزام «الهدنة» مع زعيم الجنبلاطيين طوال السنوات الماضية، تشبه البحث عن جنس الملائكة. هل امتنعت سوريا وحزب الله عن مدّ أرسلان بالدعم الكافي لإحقاق توازن ما مع جنبلاط لشعورهما بأن أرسلان لا يريد المواجهة؟ أم أن أرسلان امتنع عن خوض معركة التوازن مع جنبلاط، بعدما لمس غياب الجديّة عند حلفائه، وحرصهم على عدم تهديد زعامة المختارة ضمن لعبة التوازن والطوائف في الإقليم؟
مزاج العائلات اليزبكية في حاصبيا حانقٌ على أنور الخليل. بالنسبة إلى غالبية فعاليات هذه العائلات، ليس وارداً أن يمنح هؤلاء أصواتهم لممثّل الحزب الاشتراكي، ولو أنه ممثل رئيس المجلس النيابي. زاد الطين بلّة، الاصطفاف الكامل للخليل إلى جانب الاشتراكيين في الانتخابات البلدية الأخيرة والدعم المالي الكبير الذي قدّمه لماكينة الاشتراكي في بلدة حاصبيا وقراها الدرزية، شويا وعين قنيا والفرديس والخلوات. لم يكتف الخليل بذلك، بل بات يجاهر في مهرجانات الاشتراكيين بأنه واحد منهم، وبأن الجنوب تحرر بفعل شهداء الاشتراكي!
استشعر أرسلان الأجواء، وبدأ حملته المضادّة. وعلى مدى أيام قضاها في حاصبيا في القلعة الشهابية، التقى أرسلان فعاليات ومشايخ العائلات اليزبكيّة، شارحاً «مظلوميته» من بيروت التي عارض برّي أن يأخذ مرشّحه الدرزي على لوائحه، إلى بعبدا، إلى عاليه والشوف حيث اقترح عليه حزب الله تشكيل لائحة واحدة مع الوزير السابق وئام وهّاب ولم يقبل بذلك. اتخذ أرسلان قراره بترشيح شرّوف على لائحة الحريري ـــ باسيل بعد أن نجحت تجربة عاليه والشوف في الوصول إلى تفاهم سياسي مع باسيل. المحيّر، أن الاتفاق مع باسيل كان برعاية مباشرة من حزب الله.

ترشيح شرّوف أصاب الاشتراكيين بالاستنفار، وقسم شارع اليزبكيين والقوميين بين اللائحتين
لم يتوقّع مهندسو الاتفاق أن يمتدّ إلى حاصبيا. ترشيح شرّوف أصاب الاشتراكيين بالاستنفار، وقسم شارع اليزبكيين والقوميين بين اللائحتين. وكما هي الحال في أصغر التفاصيل، حيث يعمل الأرسلانيون والاشتراكيون على قاعدة النكاية في حاصبيا، لا يشتّ شدّ العصب الحالي عن هذه القاعدة: علّق الأرسلانيون صوراً لأرسلان وشرّوف، استنفر الاشتراكيون وعلّقوا صوراً لجنبلاط والخليل، على ذات الحيطان والمساحات! حتى إن عدداً مِمَّن انخرط في صفوف ميليشيات العميل أنطوان لحد في السبعينيات والثمانينات من أبناء العائلات اليزبكية، فعلوها نكايةً بالجنبلاطيين، الذين استقووا بمنظمة التحرير الفلسطينية. وهكذا دواليك، انتماءات سياسية بالنكاية، وولاءات بالنكاية، وانتخابات بالنكاية.

«حردان أخي»!
لا تنعزل الانتخابات في حاصبيا عمّا حصل في عاليه والشوف. خلال المفاوضات بين الحزب القومي والحزب الديموقراطي، اشترط أرسلان أن يسحب الحزب القومي ترشيح منفذ عام الغرب حسام العسراوي عن المقعد الدرزي في عاليه. كان استمرار ترشيح العسراوي تهديداً للتحالف السياسي بين الطرفين، حيث أكّد أرسلان أن ترشيح العسراوي يحرمه أصوات القوميين الدروز. إلّا أن حردان أخذ سحب العسراوي على عاتقه، معارضاً رغبة قيادة الحزب وكثير من القوميين الدروز في عاليه، الذين يعتبرون التحالف مع أرسلان يأخذ منهم ولا يعطيهم. فضّل حردان التحالف السياسي مع أرسلان على الشرخ في الجبل بين حلفاء سوريا، ولو أن الأمر على حساب الحاضنة الشعبية للقوميين عند الدروز، الذين انتظروا القانون النسبي طويلاً لترجمة قوتهم. توقّع حردان أن يقابله أرسلان بالمثل بسحب شروف من حاصبيا. وعلى ما يقول كثرٌ هنا من الفعاليات والمشايخ، إن أرسلان كرّر أمام من يلتقيهم أن المواجهة ليست مع حردان، بل مع الخليل، «حردان أخي»! لكن بالنتيجة، شرّوف ينافس حردان أوّلاً على الصوت التفضيلي الدرزي في الفلك اليزبكي ـــ القومي، بينما سينال أنور الخليل أصوات الاشتراكيين الذي لن يمنحوا حردان أصواتهم أصلاً.

الخطيب الأوفر حظّاً
لا يطمئنّ مهندسو «لائحة الأمل والوفاء» في دائرة الجنوب الثالثة إلى أن اللوائح الأخرى، لا سيّما أبرزها لائحة تحالف الحريري ـــ باسيل ـــ أرسلان، لن تستطيع أن تنال الحاصل الانتخابي، لحجز مقعدٍ من المقاعد الـ11، رغم أن توزّع القوى المناوئة لتحالف أمل ـــ حزب الله ـــ القومي، أسهم في ضعف لوائحها. وبحسب الأرقام، واستناداً إلى أرقام انتخابات 2009، فإن الحاصل الانتخابي يقارب 20 ألف صوت، لحجز مقعدٍ واحد، الأرجح أن يكون في الدائرة الصغرى، حاصبيا ـــ مرجعيون، مع استحالة أن ينال أحد المرشّحين الشيعة أصواتاً تفضيلية يتفوّقون فيها على مرشحي أمل أو حزب الله. غير أن أرقام ماكينات «الأمل والوفاء»، تطمح في رفع الحاصل الانتخابي إلى حدود الـ23 ألفاً على أقلّ تقدير، إن لم يكن إلى حدود الـ25 ألفاً. وفي هذه الحالة (ارتفاع نسبة التصويت عمّا كانت عليه عام 2009 بنحو 10 في المئة)، يصبح من الصعب جدّاً على اللوائح المناوئة أن تنال الحاصل. غير أن أكثر السيناريوات تفاؤلاً عند ماكينة لائحة الحريري ـــ باسيل ـــ أرسلان، هو الحصول على ما يزيد على 20 ألف صوت وخرق اللائحة بمقعد واحد. هذا السيناريو تضعه في الحسبان ماكينات الأمل والوفاء، لكنّها ترجّح فوز الخطيب في حال حصول اللائحة على الحاصل، كون الأخير سينال أعلى نسبة أصوات سنيّة في شبعا والهباريّة، خصوصاً بعد نجاحه في كسب تأييد الجماعة الإسلامية، فيما يعوّل الأرسلانيون على حصول خرق في المقعد الدرزي، في حال حلّ الخليل أخيراً على اللائحة.

القومي يشدّ عصبه والاشتراكيون مستنفرون
خلال السنوات الماضية، أهمل القوميون عملهم الحزبي في منطقة حاصبيا. حار التنظيم بين العمل الحزبي الصرف والعمل النيابي لمكاتب النائب أسعد حردان، في ظلّ الإمكانات المتواضعة التي يملكها الأخير في التوظيفات والتعيينات، والحاجة الملحّة لأبناء المنطقة إلى الخدمات الحياتية والطرقات والوظائف والمساعدات الاجتماعية. إلا أن الفراق الانتخابي مع النائب طلال أرسلان، دفع القوميين إلى إعادة التركيز على قواعدهم الخالصة، وإعادة الحياة إليها في قرى حاصبيا والعرقوب، وشدّ التنظيم الحزبي المترهل. بقي لحردان مكانته الخاصة في قرى حاصبيا تحديداً، على الرغم من غيابه عن المنطقة لفترات خلال سنوات الصراع الدامي. ويعيد هؤلاء التذكير دائماً بما حصل بعد التحرير من احتضان لعائلات العملاء وعدم حصول ردود فعلٍ انتقامية، خصوصاً أن حردان توسّط يومها مع سوريا والرئيس إميل لحّود لمنع المحاكمة عن النساء الدرزيات اللواتي دخلن للعمل في فلسطين المحتلة. إلّا أن ذلك لم يعد كافياً، حاجات المنطقة تطوّرت وعتب الأهالي ازداد في الآونة الأخيرة.
على المقلب الآخر، كان الوزير وائل أبو فاعور يتصرّف في حاصبيا وراشيا وكأنه نائب للمنطقتين معاً. استفاد أبو فاعور من احتكار الخدمات والتوظيفات لتوسيع نفوذ الحزب التقدمي الاشتراكي، ونجح في تطويق المؤسسات العامة بالمحسوبين عليه. الآن، يخاف الاشتراكيون أن تهتز هذه المعادلة في حال تحقيق خرقٍ من اللائحة المقابلة على حساب الخليل، وما يعنيه الأمر من وصول نائب أرسلاني إلى المقعد الدرزي. الاستنفار سيّد الموقف هنا. يحاول الاشتراكيون تحقيق أمرين: التأكيد أن أكثر من نصف دروز حاصبيا يؤيّدون جنبلاط، وإظهار حالة ضعفٍ عند الحزب الديموقراطي في صناديق الاقتراع، تقطع الطريق مستقبلاً على ترشيح أرسلاني هنا، وتفتح الطريق أمام عودة أبو فاعور إلى حاصبيا، الذي لن يكون مرتاحاً مستقبلاً في راشيا، إذا وقع الطلاق بين النائب وليد جنبلاط والرئيس سعد الحريري.

أكثر من انتخابات في وادي التيم
قبل نحو أسبوعين، رسم الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله معادلة «دائرة الجنوب الثالثة» الانتخابية، بالجغرافيا والأهميّة، وخصّ حاصبيا وراشيا بالتركيز. الانتخابات هنا ليست إنماءً وتطويراً وتنازعاً على النفوذ فحسب، إنها مفصل سياسي ـــ جغرافي حسّاس، كان دائماً مسرحاً لحسم المعارك التاريخية. وإسرائيل منذ استعصى عليها وادي الحجير ومارون الراس، واحترقت دباباتها في الخيام في عدوان تموز 2006، تضع في حساباتها بدائل اجتياح الجنوب من مسارب جبل الشيخ على المقلبين اللبناني والسوري. وحاصبيا وقعت تحت تأثير الحرب السورية، بعد أن كان احتمال استخدام إسرائيل جبال شبعا ممرّاً للمسلحين السوريين، لالتفاف المقاومة نحو عمق الجنوب. في السنوات الماضية، انقلب المزاج لمصلحة المقاومة في حاصبيا، وباتت البيوت التي كانت تعتبر حزب الله قبل التحرير «غولاً» يتهدّدها، تصدح منها أصوات خطابات نصرالله. وخلوات البياضة، المعبد الأكثر قدسيّة عند الدروز، انسجمت مع المزاج الدرزي العام في السويداء وحَضَر وعرنة في سوريا. وحين حاول أبو فاعور والجماعة الإسلامية استخدام المنطقة لدعم المسلحين السوريين، قطع أهالي شويا الطرقات مراراً. لكن استعراض الرئيس سعد الحريري الأخير في السرايا الشهابية وخلوات البياضة لم يكن مشهداً عادياً. أولئك الذين كانوا يقطعون الطرقات على حلفاء الحريري انتفاضاً لبلدة حَضَر السورية، هم أنفسهم احتفلوا بالحريري. انتظرت خلوات البياضة أن يأتيها جنبلاط وأبو فاعور برئيس تيار المستقبل، لكنّ النائب طلال أرسلان فعلها.

اشترك فى النشرة البريدية لتحصل على اهم الاخبار بمجرد نشرها

تابعنا على مواقع التواصل الاجتماعى

التالى أميركا للبنان: أعلنوا وقف إطلاق النار من جانب واحد!