محمد بلوط – وليد شرارة – الأخبار
مفاجآت ربع الساعة الأخير ما قبل الضربة الأميركية لسوريا قد تدفع إلى تخفيض سقف العملية العسكرية وتقليص مساحتها من عملية تتدحرج إلى حرب مفتوحة بين محور المقاومة وروسيا من جهة، والتحالف الغربي الذي تقوده الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا من جهة أخرى. لا عودة إلى نموذج أيلول ٢٠١٣ ولا رائحة مشابهة لتلك الصفقة التي عقدها وزيرا الخارجية الروسي سيرغيي لافروف والأميركي جون كيري بمقايضة إلغاء الضربة الأميركية ضد دمشق آنذاك بتسليمها مخزون الأسلحة الكيميائية. العملية الأميركية تواجه سلسلة تعقيدات يمكن اختصارها في محاور خمسة أدت إلى تأخير تنفيذها أو تأجيلها، في انتظار أن ينجلي الحد الكافي من الإجماع داخل الإدارة الأميركية، وبين البيت الأبيض و«دولة الأمن القومي» حول أهداف الضربة وحجمها، واليوم التالي لتلك الضربة.
عبّر «البنتاغون» أكثر من مرة عن استيائه من طريقة الرئيس دونالد ترامب في إدارة الإعداد للحملة، لا سيما في تغريداته التي تحوّلت إلى قناة تسريب لخطط الهجوم أو عناوينها. الاستياء تحوّل إلى إشكالية أكبر، لجأ فيها «البنتاغون» إلى جنرالاته المتقاعدين الذين يتمتعون بحرية التعبير، لتوجيه رسائل أوضح إلى البيت الأبيض صاحب الكلمة الأخيرة في نهاية المطاف.
في المحور الأول، قالت مصادر مطلعة في واشنطن إن الخلاف بين «البنتاغون» وترامب يتمحور حول نتائج وتداعيات أي ضربة عسكرية تؤدي إلى تغيير موازين القوى الحالية في سوريا. إن عملية واسعة كاسرة للتوازنات التي أرساها محور المقاومة والتدخل الروسي في الأعوام الثلاثة الماضية، ستكون لها تداعيات مباشرة على ألفي جندي أميركي في قواعدهم السورية، والأكثر خطورة أن شظاياها ستصيب الوجود العسكري في العراق، وهو وجود يُعدّ بنظر «البنتاغون» أكثر أهمية من عملياته السورية. ويتجاوز وزن الموقع العراقي في الاستراتيجية الاميركية ولدى البنتاغون الموقع السوري، حيث تتداخل خطوط الاشتباك السياسي مع إيران، ويشتد التنافس لتقاسم النفوذ فيه معها.
إن عملية عسكرية أميركية واسعة وغير محسوبة في سوريا ستصيب من دون أدنى شك الانتشار الإيراني والحلفاء، وستصدع جدران المساكنة الواقعية الأميركية الإيرانية المستمرة في العراق منذ سنوات، وتؤدي إلى نزاع مفتوح بين الطرفين، نجحا طويلاً في تفاديه عبر تسويات داخل المؤسسات والأحزاب العراقية. وكوزير الدفاع جيمس ماتيس، تعرف نخبة من الجنرالات من قدامى المحاربين الأميركيين في العراق، الثمن المرتفع الذي ستدفعه القوات الأميركية إذا ما سقطت هذه المساكنة. وهي نخبة على مثال ماتيس كبيرة وواسعة ومؤثرة عادت من بغداد بجثث المئات من رفاق الدرب، وذكريات مريرة. ولا تميل هذه النخبة، كما تقول مصادر عربية وأميركية لـ«الأخبار»، إلى التضحية بالمساكنة مع إيران في العراق من أجل عملية في سوريا لا أفق سياسياً ولا ميدانياً لها. فالعملية بأي حال تأتي متأخرة جداً لإنقاذ جزء من فلول المعارضة، بعد أن فرّقهم الجيش السوري أيدي سبأ، ولم يتبقّ لهم من معاقل باستثناء الجيب الجنوبي الذي تحميه إسرائيل والأردن.
في المحور الثاني، نقطة خلافية أخرى سبقت حديث العملية العسكرية أضيفت إلى لائحة الخلافات بين ترامب و«البنتاغون» ووزارة الخارجية، وقد نجح الرئيس في توحيدهما ضده على غير العهد بهما، إذ لا تزال مفاعيل مفاجأة ترامب، بالاعلان عن انسحاب وشيك من سوريا قبل أسبوع، تثير سجالاً بين البيت الأبيض من جهة، ووزارتي الدفاع والخارجية من جهة أخرى. كذلك لا يزال ترامب، وهو يستعد لإشعال جبهة الحرب السورية وشرق المتوسط، يتمسك بقراره الانسحابي بمجرد جلاء دخان الضربات. إن المزاوجة بين الهجوم والانسحاب في لحظتين متتاليتين يعني للعسكريين أن الرئيس يمهّد «للهروب» من سوريا باستعراض احتفالي ومفرقعات يستخدم فيها ترسانة ضخمة من الصواريخ الذكية كما قال في تغريداته. الذاكرة الدامية للعسكريين تطفو على السطح مجدداً. إن هذا الانسحاب السريع يعيد العسكريين والدبلوماسيين مرة أخرى إلى انسحاب آخر أليم ومكلف، عندما انسحبت القوات الاميركية من العراق عام ٢٠١١ بقرار من الرئيس باراك أوباما أدى إلى تسليمه على طبق من ذهب إلى النفوذ الإيراني. إن انسحاباً مماثلاً بعد حرب كبيرة ضد محور المقاومة ستعني تسليم سوريا، بعد العراق، إلى روسيا وإيران وتركيا، والتخلي عمّا تبقّى للولايات المتحدة من الحلفاء في شرق الفرات، وأكراد الشمال السوري، والاعتراف بالهزيمة في الميدان السوري.
محور ثالث من التعقيدات ينفتح مع كلام الوزير جيمس ماتيس أمام لجنة القوات المسلحة في الكونغرس أمس عن «عملنا لإنهاء الحرب الأهلية السورية، وفرض تسوية سياسية وفق إعلان جنيف»، يضع البنتاغون مساراً سياسياً وهدفاً سياسياً لعملية عسكرية لا تزال تفتقد كل ذلك. وبغض النظر عن واقعية هذا التوجه، إلا أنه يفتح خلافاً إضافياً مع ترامب، إذ يفترق كثيراً عن الكلام الرئاسي الأميركي الذي وضع سقفاً عالياً للعملية العسكرية المفترضة عندما أوحى بأنها ستؤدي إلى قلب الموازين في المنطقة والعالم، وباشر بمهاجمة روسيا، والرئيس بوتين، وحمّل إيران وروسيا مسؤولية الهجوم الكيميائي.
محور رابع من التعقيدات تبلور أيضاً في شقها المتعلق بالحلفاء، وشركاء العملية العسكرية الأوروبيين، وبالتحديد حول طبيعتها وحجمها. فبعد مزايدة فرنسية كبيرة في أهداف العملية، عاد الرئيس إيمانويل ماكرون إلى «واقعية» في تناول أهداف تلك العملية ومساحتها، قد يجوز وصفها بالواقعية مقارنة بالتطرف الترامبي. يدرج الفرنسيون العملية في خانة التدخّل الانساني، الذي يجعلها أكثر مقبولية لدى رأي عام فرنسي وأوروبي، تم تقديم معظم العمليات العسكرية والتدخلات الفرنسية إليه بصفتها استجابة لواجب التدخل الانساني. وهي أيديولوجية متكاملة لصناعة إجماع فرنسي مررت كل الحروب العدوانية التي خاضتها فرنسا، ولا سيما في ليبيا.
وأكثر تحديداً، يضع الفرنسيون العملية ومشاركتهم فيها تحت عنوان حماية المدنيين من أي هجمة كيميائية مفترضة، ويهندسون الضربات لكي تبقى تحت سقف نموذج «الشعيرات» بتدمير منشآت أو مواقع كيميائية ومطار أو مطارين يفترضون أن المروحيات التي ألقت القذائف الكيميائية انطلقت منها. تدرك فرنسا التداعيات المحتملة لتلك الضربات إذا ما اتسعت على مصالحها الحالية في الشرق العربي، وعلى خططها بالحصول على عقود وصفقات في العراق وإيران. يفترق المنطق الفرنسي عن المنطق الترامبي الذي أوحى أن العملية عقابية، وأنها ستحطم البيت السوري لا فرق، ومنازل كثيرة على رؤوس ساكنيها. فهي تضم إلى بنك الاهداف العسكرية، أهدافاً سياسية قد تطال رموز الدولة السورية، وتؤدي إلى انفلات جبهة الحرب.
المحور الخامس والأخير من التعقيدات يشكّل إرباكاً شخصياً للرئيس ترامب في علاقته بالروس، لا سيما خلال حملته الانتخابية وما قبلها، ظهر في الساعات الأخيرة، بحسب معلومات نقلتها مصادر دبلوماسية مطّلعة في العاصمة الأميركية لـ«الأخبار». تقول المعلومات إن الرئيس فلاديمير بوتين قد هاتف أمس نظيره الأميركي، وأن الحوار بينهما استهدف تبريد الأجواء، وكبح ترامب نحو الحرب. وبحسب المصادر، يدرك الرئيس الأميركي أنّ مستقبله السياسي وإعادة انتخابه لولاية ثانية هما هدف يسمو على جميع الأهداف، لن يتردد في دفعه إلى إعادة النظر بقراراته ومواقفه. تقول المعلومات إن الروس لن يترددوا في استخدام ملفات يحاول المحقق الخاص روبرت مولر الحصول عليها في سعيه لاتهام ترامب بالتورط بعلاقة مع الروس والحصول على دعمهم خلال حملته الانتخابية، بالإضافة إلى ملفات شخصية تملكها الأجهزة الروسية حول علاقاته مع بعض النساء، وهو ما يعرفه ترامب، وما يفسّر حرصه على استمرار علاقاته الطيبة بالرئيس بوتين، كما يفسّر هدوء ردود فعل هذا الأخير، وابتعاده عن أي تصعيد كلامي في مواجهة التصعيد الكلامي الأميركي.
وتظهر التطورات الأخيرة أن التحقيق قد يكون وصل إلى نقطة حرجة، خصوصاً بعد دهم المحققين لمكتب المحامي الخاص بالرئيس، وتهديده بإقالة مولر، ويتحضر الكونغرس لمواجهته باستصدار تشريع خاص يحصر هذا الأمر به وحده من دون الرئيس، ليضاعف ذلك من الضغوط على الرئيس الأميركي لحظة هروبه نحو حربه السورية.