منتصف تسعينيات القرن الماضي اخبرني قاضي تحقيق ان “عادة الموقوفين القول بانهم تعرضوا للتعذيب في الاجهزة الأمنية، وان اقوالهم انتزعت منهم تحت الضرب”. الرجل الستيني حينها أضاف “أعلم ان هذه الممارسة شائعة في الضابطة العدلية بكل فروعها (الاجهزة الأمنية التي يحق لها توقيف المتهمين)، وبكل الأحوال فانا عادة افضل الاستماع الى اقوال المتهمين، واستجوابهم مجددا بغض النظر عن افاداتهم امام الاجهزة الأمنية”.
القاضي كان يتحدث حينها عن الموقوفين بجرائم غير سياسية، في تلك المرحلة كانت التوقيفات السياسية من اختصاص المخابرات السورية على الاغلب، ولم يكن لدى أي فرد في لبنان شك في ممارسة الاجهزة الأمنية السورية من مخابرات عسكرية او غيرها لاساليب التعذيبـ التي يعتبر اقلها تعرض الموقوف للضرب منذ لحظة القبض عليه، واخفائه قسرا لفترة من الزمن.
الأجهزة الأمنية اللبنانية كانت تقوم بفعل مشابه لناحية الضرب والتعذيب، مع نسبة ادنى من الاحترافية في التعذيب الممنهج، نظرا لعدم صلابة اللصوص والمجرمين، مقابل صلابة اكبر لدى المعتقلين السياسيين.
ولا تعتبر أساليب التعذيب جزء من ورثة النظام اللبناني من شقيقه في المسار والمصير السوري، بل هي جزء من تركيبة الاجهزة اللبنانية منذ قيام الجمهورية، الاغتيال السياسي والضرب والتعذيب لطالما كانت موجودة في اقبية وزنازين السلطات اللبنانية كما غيرها من أنظمة دول العالم الثالث. ودائما تنكر كل الاجهزة والدول وجود هذه الانماط من الممارسة، ويخشى المحققون ضرب السجين فقط لحظة تأكدهم من تعرضه لاذى دائم، او تورطهم بمقتله تحت التعذيب، وهو ما قد يجر أحيانا ردة فعل من قبل الرأي العام تضطر امعها لجهات السياسية الى تأنيب المرتكب.
الا اننا في لبنان نسينا طويلا حقوق هؤلاء الموقوفين، كنا نتجاهل هذه الشريحة من البشر في بلادنا، التي قامت بافعال جرمية، وتعرضت لسوء المعاملة في مراكز التوقيف، ولاحقا في السجون. الاعلام يتحدث عن سجون تحولت الى مقرات إقامة بأجهزة اتصالات، ومليئة بالتطرف، ويتذكر أساليب التعذيب حين تنتفض شريحة من المساجين ضد سجانيها. ولكن السجون كلها تعود الى النسيان مع عشرات الاف المساجين والموقوفين.
منذ العام ٢٠٠٠ ومع دخول موقوفي الضنية الى المشهد القضائي، بدأت المعلومات ترد عن أساليب ضرب وتعذيب منهجية مورست بحق هؤلاء المتشددين الإسلاميين. ولاحقا مع حملات الاعتقال بحق المتورطين او المشبوهين في ملف مخيم نهر البارد وحركة فتح الإسلام زاد الحديث عن هذه الممارسة. حاليا ومع دخول بعض الناشطين المتعلمين والمعروفين سواء عامة او بفضل وسائل التواصل الاجتماعي، بدأت ممارسات الاجهزة الأمنية تلقى المزيد من الاهتمام، فلان تعرض للضرب في مركز الامن العام، اخر تلقى أساليب من الاهانات والتعذيب في مركز للشرطة العسكرية، الثالث خرج محطما بعد سجنه لبضعة أيام على ذمة التحقيق، ولكن لا يزال الكلام همسا. لقد مضى زمن طويل على تجاهلنا لشريحة المجرمين “التقليديين”، حتى بتنا اليوم نتردد في ادانة أساليب الضرب والتعذيب.
وبحسب مصدر حقوقي فان العديد من القضاة يعتبرون تصريح المتهم بتعرضه للتعذيب وانتزاع أقواله بفعله مجرد محاولة لاستعطافهم والتراجع عن مسؤوليته تجاه اعماله المرتكبة، وان كان البعض يولي الامر عناية خاصة، الا ان تكرار المقولة نفسها من قبل المتهمين يجعل القاضي يشكك بصدقها، وينتهي الامر الى اهمالها وإصدار الاحكام مع الاخذ بعين الاعتبار الاعترافات المنتزعة تحت التعذيب.
وقد لا يشفع في بعض المحاكم وجود تقارير من الطبيب الشرعي بتعرض شاب او طفل حتى للتعذيب على ايدي الاجهزة الأمنية، ويتغاضى بعض القضاة عن الامر وكأن لا تقرير ولا تعذيب.
زياد عيتاني
في مراكز التوقيف والسجون تعلم ان الوقت يمر بطيئا، وان الحياة تصبح رهن امرين، النظر او إعادة النظر بقضيتك، والحصول على أي شكل من اشكال الرشوة المتاحة، سواء اكانت وساطة من مرجعية سياسية تخرجك من وضعك، او عفو عام يمن به صاحب البلاد على رعيته. عدا ذلك فان الذل والهوان والفقر والنسيان هم مصيرك كما كل الموقوفين والمساجين.
وقد يتوقف الزمن امام ناظريك بحال علمت ان عربة الشرطة المخصصة لنقلك الى المحكمة قد تعطلت، وهو ما يحصل غالبا، مما يعني تأجيل محاكمتك لاشهر أخرى، وقضائك المزيد من الوقت في التوقيف بانتظار الموعد المقبل، وتعود الى إحصاء الايام بانتظار المحاكمة المقبلة، وفي مراكز التوقيف يمكن ان تقضي عدة اشهر في الغرفة نفسها، لا أماكن للتنفس ورؤية الشمس، ولا مساحات للخروج من رفقة بضعة مساجين قد يصل تعدادهم الى ٢٠ شخصا في الغرفة الواحدة، التي لا تتجاوز مساحتها أربعة امتار بثلاثة.
اضف الى ذلك ما يمكن ان يحبط الموقوف على ذمة التحقيق ان هو علم ان قاضي التحقيق مريض، كما هي حال صديقنا زياد عيتاني، الذي لا بد انه اكثر من يدعو لقاضيه بالصحة وطول العمر بعد اضطرار القاضي للسفر عدة مرات في الأشهر القليلة الماضية للخضوع للعلاج، مما طبعا سيؤجل جلسات القاضي الى مواعيد أخرى، وينتظر الموقوف باحباط ويأس تحسن صحة قاضيه الذي يفترض ان براءته بين يديه.
في الجلسة اليتيمة حتى اليوم التي مثل فيها زياد عيتاني امام قاضي التحقيق في يوم ١٨-١٢-٢٠١٧ انكر زياد كل ما جاء في افادته المقدمة امام المحققين في مديرية امن الدولة اللبنانية.
واجهه قاضي التحقيق باعترافاته المدونة على محاضر امن الدولة، فقال زياد ان كل ما ورد فيها كذب، ولا علاقة له بالحقيقة.
وحين سُئل عن “كوليت فيانفي” أنكر زياد وجود شخصية بهذا الاسم، وقال إنه اخترعها تحت تأثير الضرب وتهديده بزوجته وابنته خلال التحقيق معه، وانه كان يروي ما يريد المحقق سماعه.
كما أنكر تلقيه أي حوالات مالية، وقال إنه صرّح بوجود الحوالات تحت الضغط، وبعد التحقيق باقواله ومحاولة عناصر امن الدولة التدقيق فيها، تبين انها غير صحيحة، وانه لم يتلق أي حوالات من إسرائيليين او من جهات مشبوهة، ولحظة علم محقق أمن الدولة أن لا وجود لحوالات مالية عبر “وسترن يونيون”، أعادوا تهديده وضربه لأنه “كذب عليهم”.
كما نفى زياد وجود أي اتصالات مع “كوليت فيانفي”، لأنها أصلاً شخصية مخترعة.
ونفي ايضا وجود فيديوهات جنسية ابتُز بها، مشيرا الى انها احدى المعلومات التي اضطر لقولها تحت التعذيب وهي غير صحيحة، قائلا إنه متزوج حديثاً وعلاقته بزوجته على أحسن ما يكون.
ونفى زياد مقابلته أي شخص أو تلقيه أي اتصالات في تركيا، وعن تحديده خلال التحقيق معه منطقة بشكتاش في تركيا، أفاد أنه قابل وزوجته بعض الأصدقاء هناك خلال زيارته الى تركيا، مضيفا ان ما ورد في التحقيق لناحية تلقيه اتصالات على هاتفه اللبناني خلال وجوده في تركيا امر غير صحيح، خاصة انه لم يفعل خاصية “رومينغ” في تركيا، وبالتالي لم يتلق أصلا أي مكالمات على هاتفه من أحد.
وحول الشخصيات التي وردت أسماؤها في تحقيقات أمن الدولة، مثل نهاد المشنوق وعبدالرحيم مراد وصحافيين، قال عيتاني إنه سئل عن معارفه واتصالاته، لكنه لم يقل ابدا انه ارسل تقارير عنهم أو عمد الى مراقبتهم، مشيراً إلى أن محقق أمن الدولة ربط هذه الخيوط ببعضها وبنى عليها استنتاجاته الخاصة.
قاضي التحقيق طلب داتا الاتصالات ليبنى عليها موقفه، وبانتظار وصول داتا الاتصالات، وتحسن صحة قاضي التحقيق فان زياد يقبع في السجن بين محكومين واخرين ينتظرون احكام القضاء.
ماذا بعد؟
تحمل قصة زياد عيتاني بعدين، الاول هو الظلم الذي وقع على شخص عانى طويلا، وحين وصل الى طرف خيط النجاح والإنتاجية أتت ضربة قاسمة ظالمة لتحطمه بشكل شبه نهائي، وتضعه على حافة انهيار نفسي إضافة الى كل الانهيارات الأخرى التي شهدها خلال الأشهر القليلة الماضية، والتي سيشهدها مع مسار محاكمته وسجنه.
البعد الاخر هو تهافت النظام السياسي القائم في لبنان، الذي باتت قصة زياد عيتاني تمثل ملخصا له، اعتقال، تعذيب، انتزاع اعترافات بالقوة والتهديد والضرب، تحويل الى التوقيف الاحتياطي، توقيف بانتظار المحاكمة، إجراءات إدارية بطيئة لدى القضاء نظرا لضغط العمل على الجسم القضائي، كل ذلك بسبب وشاية، او ربما شكوى من جهة فضلت ان تبقى خلف الأضواء، ومع الكثير من بيانات فارغة من مديرية أراد رئيس الجمهورية الجديد تكريسها كجهاز امني قوي يحمي عهده، بينما ينهار البلد تحت وابل من المصائب التي لا قبل ولا إرادة للقوى الحاكمة على حل أي منها.
ما حصل مع زياد قد يحصل باية لحظة مع أي من المواطنين، ما حصل مع اللاجئين السوريين في حزيران وتموز الماضيين من توقيف وضرب وموت تحت التعذيب قد يحصل أيضا مع أي من المواطنين اللبنانيين، لا حدود لانهيار البلد، لا حدود لتهافت جسم السلطة، ولا لتفاهة الحاكمين، ولا للامبالاة المحكومين. لا حد لعدم القدرة على التأثير على مجريات الاحداث، ولا على حماية الحقوق الفردية او الجمعية للبشر الساكنين في لبنان.
مع التدقيق في ما حصل مع زياد عيتاني، ومع الاحتفاظ بنسبة شك بان هناك “تواصل ما” قد حصل فعلا أسس لكل هذه المآساة، الا ان ما الذي يمكن ان يحمي أي شخص انتقد سلطة سياسية او حكومية فاسدة، اهدرت حقوقه، من الذي يمكن ان يستنجد به أي مواطن، ان كانت الاجهزة الأمنية تتصف ببعض ما وصفنا؟ ما الذي يمنع أي ضابط من التعرض لكرامة وحرية مواطن في بلادنا؟
ربما هذا هو المغزى الوحيد المستخلص من مآساة زياد، لم يعد هناك ما يوقف السلطة ورجالاتها عند أي حد. فلا القوانين ولا الاعلام ولا الكلام عاد ينفع.
تنويه لا بد منه:
لا يمت لي زياد عيتاني بصلة نسب، ولا قرابة بعيدة حتى، وغير اسم العائلة لا شيء يجمعنا تقريبا، تعرفت اليه في العام ٢٠٠٩ او ٢٠١٠، وبقينا على صلة لمدة لا تزيد على العامين، ثم سار كل منا في طريق مختلف تماما، ومنذ العام ٢٠١٢ قلما صدف والتقينا. ولمحبي العلاقات العائلية والروايات العشائرية فان النص التالي لن يشفي غليلكم، بالنسبة لي سيكون مجرد معلومات عملت على تجميعها منذ تم توقيف زياد عيتاني وحتى لحظة نشر هذه المادة.
تم التغاضي عن ذكر المصادر خلال النص، للحفاظ على سريتها، سيما ان الاوضاع في البلاد لم تعد تسمح بالتلميح الى المصادر، عداك عن ذكرها، الا انه لا بد من الإشارة إلى ان معلومات النص مستقاة من محامين وضباط واطباء وعناصر امنيين، وعدد من أصدقاء زياد عيتاني.