تقع بلدة القاع في أقصى البقاع الشمالي الشرقي، غير بعيدة من مدينة حمص السورية. يبلغ عدد سكانها 13 الفاً (مقيمين فيها وفي خارجها)، معظمهم من الكاثوليك، إلى جانب مئتي ناخب ماروني.
كانت حياة البلدة زراعية في الأساس، وشهدت تطورا في السنوات الماضية. وبسبب نشاط بلديتها نشأت فيها مشاريع سياحية واقتصادية وزراعية حديثة: بحيرة اصطناعية، شاليهات سياحية في محيطها. وتعمل البلدية على إنشاء سوق للخضر، ممول من الحكومة الألمانية بالتعاون مع وزارتي الشؤون الاجتماعية والعمل والبلدية. وهناك مشروع منطقة صناعية على الطريق.
انتماءات أبناء القاع السياسية متنوعة. لكن الحرتقات باتت خبزهم اليومي، بسبب الانقسام القواتي العوني فيها، إلى جانب حضور خجول وفاعل للقوميين السوريين الذين كان لهم نائب منذ انتهاء الحروب اللبنانية في التسعينات، وحتى الانتخابات النيابية الأخيرة.
الحروب وثاراتها القديمة
في شهادات بعض من أهالي لبلدة، بدأ حضور العونيين بين أبناء البلدة، بعد تولي العماد ميشال عون رئاسة الحكومة العسكرية سنة 1988، وخوضه حربيه الشهيرتين بالجيش اللبناني (التحرير والإلغاء). وهم ظهروا بين الجنود القاعيين الكثيرين. لكن العونيين منهم لم يتجاوز عدد أصابع اليدين، وكانوا مقيمين في بيروت وضواحيها، وعاد بعضهم للإقامة في بلدتهم بعد تقاعدهم وتقاضيهم تعويضاتهم، مستمرين في قبض رواتبهم الشهرية، من دون قلق على حياتهم ومستقبلهم.
وهذا على خلاف محازبي القوات اللبنانية القدامى والكثيرين، القلقين والخائفين طوال حقبة "الاحتلال" السوري للبنان وسيطرته الثقيلة على البقاع. لكن عودة أولئك الجنود القاعيين العونيين إلى بلدتهم، لم تؤدِ إلى ظهورهم السياسي الحزبي في القاع، إلا بعد جلاء الجيش السوري ومخابراته عن لبنان في 26 نيسان 2005، وعودة الجنرال عون من منفاه في فرنسا.
ويتحدر القواتيون القاعيون من حضور حزب الكتائب اللبنانية القديم في القاع، والذي يعود إلى الخمسينات والستينات من القرن العشرين. فبعض العائلات القاعية لديها صور قديمة لرجالها مرتدين زي العراضات المنظمة التي كان يقيمها حزب الكتائب في ساحة البرج ببيروت. وبعض شبان تلك العائلات انخرطوا في الميليشيا الكتائبية منذ بدايات الحرب في لبنان (1975)، وقاتلوا على جبهات الحرب في بيروت وسواها من المناطق اللبنانية. وهم منذ بدايات الحرب، عزفوا عن زيارة أهلهم في القاع المعزولة والعزلاء، بسبب كثرة الحواجز الفلسطينية والسورية المؤدية إليها في البقاع.
لكن المنعطف الكبير الأبرز في حياة القاعيين، كان هجرة معظم أهالي البلدة إلى ضواحي بيروت، وخصوصاً إلى النبعة، خائفين هلعين بعد "مجزرة القاع" الشهيرة ليل 27 حزيران 1978، والتي شملت القاع ورأس بعلبك وجديدة الفاكهة. ففي تلك الليلة دخلت إلى تلك البلدات شاحنات عسكرية أقلّت نحو 200 مسلح بلباس مدني، فراحوا يداهمون البيوت ويعتقلون الرجال، في أجواء متوترة نجمت عن مجزرة إهدن في 13 من الشهر نفسه.
ويُروى أن الباعث على الثأر من القاع وأهلها، كان العثور على بطاقة محازب كتائبي من القاع، شارك في الهجوم على إهدن وقتل طوني فرنجية وعائلته في معقله الصيفي. لكن حادثة إهدن توّجت صراعاً دامياً على النفوذ في الشمال اللبناني الماروني بين الكتائب وزعامة آل فرنجية العشائرية في زغرتا - إهدن، قبل نشوء القوات اللبنانية بقيادة بشير الجميل تحت شعار "توحيد البندقية المسيحية"، وميل الزعيم الزغرتاوي سليمان فرنجية إلى مماشاة السياسة السورية، وإنشائه علاقة عائلية حميمة بالرئيس السوري حافظ الأسد، بعد نهاية عهد فرنجية رئيساً للجمهورية عام 1976.
ففي تلك الليلة (27 حزيران 1978) عمد مسلحو الشاحنات الذين دخلوا القاع بثياب مدنية (يرجح القاعيون أنهم من أجهزة المخابرات السورية ولفيفهم اللبناني)، إلى خطف 26 شاباً من البلدة، وتصفيتهم بدمٍ بارد، في وادي الرعيان، غير بعيد من القاع.
العائلات القاعية التي فقدت رجالاً وشباناً، هجرت البلدة إلى ضواحي بيروت الشرقية، فلاذت والتحمت بالقوات اللبنانية، وصار بعض شبانها مقاتلين أشداء ومتقدمين في صفوفها بعدما تولى قيادتها سمير جعجع. وهناك روايات كثيرة عن عائلات قاعيّة كانت نساؤها في النبعة تغسلن الثياب العسكرية لأبنائهن الموزعين على جبهات الحرب الأهلية المسيحية العونية - القواتية الشرسة في ما سمي "حرب الإلغاء" في العام 1988.
مناكفات بلدية
محطة أخرى تتردد في شهادات بعض شبان القاع: فرحة البلدة بـ"ثورة الأرز" في العام 2005، وبدأ الاعتصام في ساحة الشهداء غداة اغتيال رفيق الحريري. ففي الخيم التي نصبها شبان وشابات نواة حركة 14 آذار في الساحة، قرب ضريح الحريري، كانت كثرة من المحازبين القواتيين القاعيين تنام في تلك الخيم، ليلتين أو ثلاث أسبوعيا، ونادراً ما كان بينهم شاب عوني قاعي. لكن بعد انسحاب الجيش السوري، تداعى العونيون القاعيون وتجمعوا في القاع وأقاموا مهرجاناً رفعوا فيه أعلامهم وشعاراتهم. شارك القواتيون في المهرجان، فرأوا أن معضم المشاركين من عرسال. وبعد ذلك المهرجان بدأ الانتساب إلى التيار العوني ينشط ويزداد.
آنذاك رأى قواتيو القاع أن من المبكر إقامة مثل تلك المهرجانات، لأن البلدة عملياً كانت لا تزال خاضعة لهيمنة حزب الله الذي كان يعادي القواتيين والعونيين، ولا تحتاج القاع إلى مثل تلك الاستعراضات. ولكن القواتيين لم ينجحوا في إقناع العونيين بالعدول عن الفكرة.
في المقابل يتهم العونيون القواتيين بأنهم يثيرون عداوات محيط القاع، ولا يراعون شعور الأغلبية في المنطقة، كلما أحيوا نشاطاً يجمع شبانهم في سهرة أو على غداء في بساتين القاع، أو في قداس على أرواح شهدائهم.
بعد تفاهم مار مخايل بين العماد عون والسيد حسن نصرالله، ارتاح العونيون واطمأنوا في القاع. فحزب الله أصبح حليفهم. وصارت نشاطاتهم علنية، تُرفع فيها أعلامهم وتصدح أناشيدهم. وسرايا المقاومة التي أنشأها حزب الله لم يعد القواتيون يميزون بينها وبين العونيين القاعيين.
وفي رأي القواتيين، العونيون في القاع معظمهم من متقاعدي المؤسسة العسكرية، ولا يجمعهم رابط تنظيمي، بل هم مشتتون، وكل منهم طامح إلى التصدر، ويجمع حوله أقاربه ومعارفه، ويعمل على تنسيبهم إلى التيار. وهكذا تعزّز حضورهم، ودعموا التنظيمات الحزبية المعادية للقوات، مثل حزب البعث والسوري القومي. وفي الأصل نشأ العونيون على كراهية القوات، واستقطبوا كل من يعاديهم. والكراهية تلك تتعدد أسبابها، وتجمعها سردية عونية واحدة: "الحواجز القواتية التي كانت تذلّ المدنيين المسيحيين في الحرب، فتفرض عليهم الخوات، وتسلبهم حتى ربطة الخبز".
وهناك ظاهرة لافتة في الحالة العونية في القاع. فإلى الجنود المتقاعدين انضمت بعض الوجوه الطامحة لحجز موقع في المشهد البلدي القاعي. ومعظم أولئك الطامحين لم يكونوا على علاقة سابقة بالتيار العوني، الذي اعتمد بعد عودة العماد عون من منفاه على ضم أصحاب الوجاهة والأثرياء الطامحين إلى مواقع سياسية. وعندما حاول القواتيون في القاع التحاور مع العونيين، تبين لهم أن أصحاب الرأي والقرار بينهم، إما مرتبطين بالأجهزة السورية، أو بحزب الله.
أحلاف انتخابية
في الانتخابات البلدية الأخيرة في العام 2016 عرض القواتيون - بحسب أحد مسؤوليهم في القاع - على العونيين خوضها متحالفين، على أن تكون رئاسة البلدية مداورة بينهما (3 سنوات لكل منهما)، لكن العونيين رفضوا العرض. وبعدما فاز القواتيون في تلك الانتخابات، درج العونيون على إثارة الأهالي ضدهم، علماً "أنني كنت أحاور عشرين شخصا من العونيين، كل منهم برأي، ولا أعلم من منهم مخول البت بموضوع التحالف في الانتخابات البلدية"، قال المسؤول القواتي.
التحالفات والتوجهات العونية سريعة التقلبات. ففي الانتخابات النيابية سنة 2005 رشح العونيون العميد سليم كلاس عن المقعد الكاثوليكي في البقاع الشمالي، على لائحة منافسة للائحة حزب الله - أمل. كان كلاس (وهو من بلدة الفاكهة) قائداً للواء الثامن، وخاض معارك سوق الغرب في عهد أمين الجميل الرئاسي، عندما كان العماد عون قائداً للجيش، وعدد كبير من عناصر الجيش القاعيين كانوا في هذا اللواء. دعمت القوات المرشح أنطوان حبشي الماروني (من دير الأحمر) على لائحة أخرى سميت "لائحة إنماء بعلبك - الهرمل" وضمت يحيى شمص وألبير منصور. المرشحان (حبشي وكلاس) ليسا من بلدة القاع، ولكنهما حازا على أغلبية أصواتها، فيما لم ينل ابن القاع، مرشح حزب الله، القومي السوري مروان فارس، إلا نسبة قليلة من أصواتها، وفاز بالنيابة بحكم القانون الأكثري.
في انتخابات 2009 تحالف عونيو القاع مع مروان فارس وأعطوه أصواتهم. وفي انتخابات 2017 رشح العونيون أحد أبناء القاع (إميل ضاهر). وهو ابن بيت سياسي تقليدي، شقيقه مرشح سابق للانتخابات، ولم يكن منتمياً إلى التيار، ولا زاول نشاطا سياسياً. عائلته كانت من أكبر ملاك الأراضي في القاع، وباعوا أراضيهم بسبب إفلاس عائلي. وركب ضاهر الموجة العونية، وترشح على لائحة واحدة مع مسؤول حزب البعث فايز شكر، ونالت لائحتهم 5 آلاف صوت، منها 2600 للعونيين في البقاع الشمالي كله. أما أنطوان حبشي القواتي فنال في القاع وحدها 1550 صوتاً.
شعارات متناقضة
يرى بعض أهالي القاع أن العونيين "ظاهرة صوتية" في بلدتهم، على ما قال أحدهم. فهم لا يتوقفون عن الكلام عن التمسك بالأرض والامتناع عن بيعها، لكنهم يستقطبون الذين باعوا أرضهم ويحالفونهم. وهم "ماهرون في البروباغندا الإعلامية، وإطلاق الشعارات ورفع اللافتات"، مرددين أن المصلحة القاعية تتجسد في علاقات حسن الجوار مع محيط القاع الإسلامي السني في عرسال، حتى في حال اعتداء بعض العراسلة على أراضي القاع. لكنهم في مناسبات كثيرة يسارعون إلى اتهام أهالي عرسال بأنهم "داعشيون بالفطرة". وهم في الوقت نفسه يسكتون على تعديات بعض أبناء الهرمل على أراضي القاع، بذريعة أن حزب الله هو من يحمي القاع من الداعشية السنية. ثم انجرف العونيون في موجة سرايا المقاومة التي سلحتهم ودربتهم، وراح جمهورهم وقياداتهم يرددون كلمة المقاومة في أي نشاط ومهرجان يقيمونه. أما القواتي في القاع فلا يقبل أن يحميه سلاح حزب الله، ويدعو أهالي القاع والهرمل وعرسال إلى التكاتف والتضامن خلف الجيش اللبناني الذي عليه وحده حماية الأهالي، حين يلزم الأمر.
ويشير أحد عونيي القاع إلى أنهم يتميزون عن القوات بقوة نشاطهم على مواقع التواصل. ويضيف قواتي أن العونيين مرتاحون على وقتهم، ومرتاحون ماديا ولا شيء يؤرقهم. همهم الأكبر هو الدعاية الإعلامية، و"الحرتقة" على البلدية، لأن رئيسها قواتي وصوته مسموع، ولديه شبكة علاقات واسعة محلياً، ويؤسس مشاريع إنمائية في البلدة. ولذا يبحث العونيون عن أي موقع يتيح لهم التصدر، ولو في حجز مقعد أمامي في الكنيسة أثناء القداس.
مهرجان فني عوني
صعُب على العونيين تقبل انتخاب أنطوان حبشي نائباً قواتياً في المنطقة، التي تحسّن فيها وضع القوات المعنوي. في السابق كان رفع علم قواتي على بيت في القاع أو في طرقها يستلزم تأمين حراسته. وكان حضور مسؤول قواتي إلى المنطقة يسبب أزمة.
أما النشاطات العونية في القاع، فتختلط فيها الدعاية بالشائعات والمهرجانات. وأقاموا الصيف الماضي مهرجاناً فنياً، هو الأول في القاع في حجمه الكبير. كان منظم المهرجان موظفاً عادياً، وأخذ يتعهد حفلات وعُرف بهذه الصفة، وأنشأ علاقات بالوسط الفني اللبناني، وراحت تربطه علاقة وثيقة ومتينة برئيس التيار العوني جبران باسيل. فقد نشر صوره مع باسيل، ليوهم القاعيين البسطاء أنه صاحب نفوذ وطويل اليد، بحسب شهادة القواتيين. فأي شاب قاعي يريد الدخول إلى سلك الجيش اللبناني، أو الحصول على وظيفة، صار يقصد هذا العوني للتوسط له مع باسيل.
المهرجان الفني الذي أحياه هذا العوني ومتعهد الحفلات في الصيف الماضي، أقامه من دون تنسيق مع بلدية القاع، وبدعم من باسيل ورجال أعمال وحديثي نعمة ومتنافسين على حيثية ما في القاع والمنطقة. فتعاقد مع نجوم غناء من الدرجة الأولى، مثل نوال الزغبي وملحم زين. في الليلتين الأوليين كان الحضور قليلاً، فلم يملأ سوى كراسي الصفوف الأولى. معظم القاعيين قاطعوا المهرجان. ومن خارج المنطقة لم يحضر كثيرون. نوال الزغبي غنت أغنيتين وغادرت، لأن المقاعد كانت شبه خالية. لكن ملحم زين في الليلة الثانية جمع جمهوراً من 2500 شخص، بسبب الإعلانات والدعاية التلفزيونية المكثفة على قناة otv العونية.
محمد ابي سمرا - المدن