سيرة ميشال عون منذ مؤتمراته الصحافية أبان "الحرب التحرير" و"حرب الإلغاء" ثم يوم عودته في العام 2005، إلى حقبة إقامته في الرابية المترعة باللقاءات الإعلامية الصاخبة، وصولاً إلى استقراره الآن في قصر بعبدا رئيساً للجمهورية.. هي سيرة غير ودية مع الصحافيين والصحافيات. حافلة بالحوادث التي تعبّر عن سرعة غضبه وتوجسه ليس فقط من محتوى الأسئلة أو من محاولة المساجلة بل أحياناً كثيرة من مجرد النبرة التي يقال بها السؤال الصحافي.
الرئيس بطبيعة الحال، ابن المؤسسة العسكرية التي "ترّبي" ضباطها على نظام الانضباط الهرمي الصارم، ووفق مسلك واحد: إصدار الأوامر من فوق إلى تحت. وهذا الـ"تحت" ينفذ وحسب. ما من سجال أو اعتراض أو تهرب من تنفيذ الأوامر. فهذا "تمرد" وجب قمعه.
"الديموقراطية" دوماً خارج الجيش، حتى وإن كانت واحدة من أهم مهامه الدفاع عن النظام الديموقراطي نفسه. يمكن للضباط احترام الديموقراطية وشروطها لكن لا يمكنهم أن يكونوا في مؤسستهم ديموقراطيين.
إذا أضفنا هذه التربية إلى الطبع الشخصي للرئيس المتوجس، يمكن تفهم صعوبة العلاقة بين العسكري والصحافي. المرات التي أظهر فيها الرئيس استعداده لمخاصمة المراسلين على الهواء مباشرة، كانت كثيرة مقارنة بسياسيين آخرين. وهذا ما رسّخ انطباعاً أن الرئيس إذ يحترم الصحافيين إلى هذا الحد أو ذاك إلا أنه لا يكن مشاعر "الصداقة" تجاههم.
يستأنس المرء مهما كانت صفته للإطراء والمديح، وينفر ويغضب من أي نقد حاد أو ذم أو سخرية. لكن من سمات الأنظمة الديموقراطية أنها تتيح للعموم التعبير عن ميلهم الطبيعي لتناول الشخصيات العامة والمشهورة ورجال السلطة بشيء من السخرية والنقد والنميمة، بل يشغف العموم بكل احتمال فضائحي وكل رواية فاضحة. وينزع الجمهور عموماً إلى تسقّط الأخبار المثيرة وملاحقة الهفوات والزلات والأخطاء مهما صغرت.. وهذا المنزع الأصلي لدى عموم المواطنين هو الوجه الأول لمعنى المراقبة والمحاسبة والملاصق دوماً لمهنة الصحافة والإعلام.
بين رغبة الشخصية العامة صاحبة السلطة بتلقي الإطراء الدائم، ورغبة الجمهور بالمراقبة والنقد والسخرية والكشف والفضح، نجد نوعين من الإعلام. الأول المستسلم للسلطة الفاقد للصدقية بعيون الجمهور. والثاني "المشاغب" على السلطة الذي يحبذه الجمهور. أي هناك إعلام ممالق سرعان ما يتخلى عن مهمة "البحث عن الحقيقة" والاكتفاء بمهمة "الدعاية" للسلطة ولأصحاب النفوذ، وإعلام معارض (وحرّ) لا يهمه سوى إرضاء الجمهور والكشف وقول الحقائق، بل والتحريض أحياناً كثيرة.
أي ميل من السلطة لفرض تربية عسكرية قوامها تسلسل "الأوامر" من فوق إلى تحت على الصحافة والإعلام، هو خروج من الديموقراطية وعليها. أي محاولة لـ"تهذيب" الصحافة والإعلام و"تنظيفهما" من السخرية والكاريكاتورية والمبالغة والنقد اللاذع هي وصاية بوليسية ترهيبية تقيّد الحريات. بل أن شرط الديموقراطية الفعلي وجود صحافة "صفراء" ووجود هوامش للشتيمة نفسها ومتن واسع للسخرية اللاذعة.
من دون الشغب الصحافي ومن دون جمهور سليط اللسان فإن رغبة السلطة للمزيد من السلطة تصبح بلا حد. وعندها بدلاً من أن تكون تحت المراقبة والمحاسبة تصير هي قوة فالتة في "المراقبة والمعاقبة".
الرغبة التي أبدتها السلطة اللبنانية في الأيام الأخيرة لإفلات الأجهزة القضائية والأمنية على الصحافيين والإعلاميين والمدونين والناشطين.. يجب مواجهتها بأقصى درجات التحدي ومهما كلّف الثمن.
يوسف بزي - المدن