في مطلع كل عام دراسي ينكشف اللبنانيون مالياً لدى بدئهم بتسجيل أولادهم في المدارس. فالواقع التربوي فرض على اللبنانيين عدم الثقة بالمدارس الرسمية، خصوصاً في مرحلتي التعليم الابتدائي والمتوسط التأسيسيتين. لذا يلجؤون إلى التعليم الخاص، لإكساب أولادهم اللغات الأجنبية والمهارات غير المتوفرة في التعليم الرسمي.
مراتب التعليم وكلفته
لكن العام الدراسي الحالي بدأ على وقع نزوح كثيف من المدارس الخاصة إلى المدارس الرسمية. إذ وصل عدد الطلاب النازحين من الخاص إلى الرسمي إلى أكثر من 18 ألف طالب. والعدد قد يرتفع كثيراً قبل انتهاء مهلة التسجيل في العاشر من شهر تشرين الثاني. لذا لا أرقام دقيقة بعد، على ما أكدت مصادر وزارة التربية لـ "المدن"، في انتظار انتهاء مهلة التسجيل.
على الرغم من بقاء رواتب اللبنانيين في القطاع الخاص - ومنهم المعلمين - على حالها بلا زيادات منذ أكثر من عشر سنوات، سجلت أقساط المدارس الخاصة ارتفاعاً كبيراً منذ العام2011، وصل اليوم إلى مئة في المئة، ووفق بيانات أعدها اتحاد لجان الأهل. وهذا من الطبيعي أن يحمل الأهل على اللجوء إلى التعليم الرسمي. لمجابهة غلاء المعيشة التي ارتفعت أضعافاً خلال هذه السنوات.
على سبيل المثال ارتفعت أقساط مدارس البعثة العلمانية الفرنسية بنحو 140 في المئة في السنوات العشر الأخيرة، وفق البيانات التي حصلت "المدن" على نسخة منها. ولفتت المنسقة القانونية لمدارس البعثة في اتحاد لجان الأهل، ملاك حمية، إلى أن معظم الأهالي الذين ترك أبناؤهم مدارس البعثة، انتقلوا إلى مدارس خاصة أقل كلفة. وأكّد منسقون في المناطق أن معظم الأهالي الذين كانوا يسجلون أولادهم في المدارس الخاصة المتوسطة الكلفة، نقلوا أولادهم إلى التعليم الرسمي، بعدما ضاق بهم الحال وباتوا غير قادرين على تسديد الأقساط.
شهادات أهالي
استطلعت "المدن" أحوال بعض الأهل في المناطق من الجنوب إلى الشمال، للوقوف عن الأسباب التي دفعتهم إلى نقل أبنائهم من مدارس خاصة إلى رسمية، فتبين أن ارتفاع الأقساط والضائقة المالية هما السبب الرئيسي لهذا الخيار الذي لجأوا إليه مرغمين.
أشارت عبير شدّاد إلى أنها باتت غير قادرة على تحمل كلفة أقساط أولادها في مدرسة حسام الدين الحريري في صيدا، مشيرة إلى أنها باتت 7 ملايين وستمئة ألف ليرة عن التلميذ الواحد، من دون القرطاسية وباقي المصاريف والنقليات.
قبل العام 2012 كانت شداد تدفع أقل من نصف القيمة المذكورة، ثم بدأت الأقساط ترتفع رويداً وصولاً إلى العام 2017، عندما ارتفعت نحو 20 في المئة دفعة واحدة، بعد إقرار سلسلة الرتب والرواتب. ولأنها باتت غير قادرة على تكبد هذه التكاليف، نقلت أولادها إلى مدرسة بلدتها كفرحتى الرسمية.
بدوره أكّد أنطونيو فنيانوس - بعدما توسط لابني أخيه المهاجر لدى الراهبة المسؤولة عن المدرسة الأنطونية في زغرتا لمنحهم إفادات لنقلهم إلى التعليم الرسمي - عدم قدرة العائلة على تحمل الأقساط، ما دفع زوجة أخيه إلى نقل أطفالها إلى مدرسة طوني فرنجية الرسمية في زغرتا. واحتج فنيانوس على رفض الراهبة منح الإفادات قبل سداد باقي الأقساط، ثم لفت إلى أن زوجة أخيه ما كانت لتلجأ إلى هذا الخيار ولو كانت قادرة بعد على تحمل القسط في الأنطونية.
لا تختلف قصة زينة العلي التي كانت تسجّل أطفالها الثلاثة في الثانوية الوطنية الأرثوذكسية، المعروفة بمدرسة مار الياس في طرابلس، عن باقي أقرانها. فقد رفض مدير هذه المدرسة إعطاءها إفادات إنهاء أولادها العام الدراسي المنصرم في مدرسته، بعدما باتت غير قادرة على تحمل تكاليف المدرسة البالغة نحو 13 مليون ليرة على أولادها، فعمدت إلى نقل الطفلين الذكرين إلى المدرسة الرسمية، بينما نقلت طفلتها إلى مدرسة خاصة أخرى أقل كلفة في انتظار اجتيازها مرحلة الحضانة.
وتشير العلي إلى أنها عندما سجلت ابنها الأول بلال في العام 2012، كان القسط السنوي في مدرسة مار الياس حوالى 1500 دولار. ثم بدأ يرتفع حتى وصل العام الفائت إلى حوالى ثلاثة آلاف دولار، إضافة إلى نحو ألف دولار أخرى موزعة على القرطاسية والأنشطة والنقليات. وتضيف أن الأقساط ارتفعت بين العام 2017 والعام 2018 نحو سبعمئة ألف ليرة عن كل ولد. ما اضطر الأهل إلى رفع دعاوى على المدرسة، لكنها ما زالت عالقة بسبب عدم تشكيل المجلس التربوي التحكيمي للبت بها.
من ناحيتها لفتت كلود داوود إلى أن الوضع الاقتصادي المتردي، وعدم إيجادها عملاً، واعتماد العائلة على راتب زوجها، دفعها إلى نقل ولديها إلى مدرسة رسمية. فقد اعتادت داوود على تسجيل طفليها في مدرسة السان سوفار في جعيتا، وكانت في مطلع كل عام تقول في قرارة نفسها: ربما هذه السنة ستكون أفضل من سابقاتها. لكنها باتت غير قادرة على دفع قسط الأربعة ملايين ومئتي ألف ليرة عن كل طفل، خصوصاً أن الأقساط ارتفعت نحو مليون ونصف منذ العام 2017.
وبعدما ضاقت بها الحال لجأت داوود إلى نقل طفليها إلى مدرسة اسكندر رزق الرسمية في عشقوت، لتتخلص من القلق اليومي بسبب حرمان أطفالها من احتياجات كثيرة كانت في السابق توفرها لدفع أقساط المدرسة الخاصة.
ليست هذه الشهادات سوى عينة نموذجية تتكرر مثيلاتها في بيئات ومناطق لبنانية مختلفة، ومن فئات متوسطة وما دونها، وصولاً إلى أهل يحرمهم تدني مداخيلهم وفقرهم من تعليم أطفالهم.
وليد حسين - المدن