مثل كلّ حدثٍ في لبنان، يتحول إلى قضية رأي عام، ثمّ ما يلبث أن يخفت النقاش حوله بعد مدّة قصيرة، طُوي السجال الذي أثارته "فضيحة العهد" بعودة العميل الإسرائيلي عامر الفاخوري إلى لبنان. رُبما هو حال البلد الذي تتزاحم فيه القضايا واحدة تلو أخرى، وحال شعبه الناقم على اقتصاده وليرته ومعيشته وفساد سلطته.
لكنّ رجوع "جزّار الخيام"، بقرارٍ سياسيٍ و"شحطة" قلم أمنية شطبته عن البرقية 303 الصادرة بحقّة، ضرب بعمق ازدواجية السلطة المنحازة لفئةٍ ضدّ أخرى، وكيلها بمكيالين لصالح القوّة الغالبة في هذا "العهد القوي". وقضية الفاخوري، الذي كان قد حصل على براءة ذمّة سياسية وأمنيّة لدى رجوعه إلى لبنان وقبل خروج فضيحته إلى العلن، تستوجب على الأقلّ، أن يُعاد فتح ملف آلاف "وثائق الاتصال" غير الشرعية الصادرة من وزارة الدفاع، و"لوائح الاخضاع" الصادرة من وزارة الداخلية، بحقّ مئات المواطنين، وتحديدًا تلك الموجهة لفئة معينة منهم، من دون وجه حقٍّ قانوني وقضائي وأمني.
درج إصدار "وثائق الاتصال" إثر الأحداث الأمنية التي عصفت في لبنان، وأخذت طابعًا إرهابيًا و"إسلاميًا" في معارك عبرا وبحنين ونهر البارد وجبل محسن وباب التبانة، وإثر الحرب في سوريا، حين صدرت "وثائق الاتصال" بحق شباب متهمين بالتخابر والقتال إلى جانب تنظيمات إسلامية هناك. لكنّ حكومة الرئيس السابق تمام سلام، في تموز العام 2014، أصدرت قرارًا رسميًا يقضي بموجبه "إلغاء وثائق الاتصال ولوائح الاخضاع الصادرة عن الأجهزة العسكرية والأمنية، وتكليف وزارة الدفاع والداخلية والعدل إقتراح مشروع تنظيم يتعلق بالإجراءات المتعلقة بهذا الموضوع ورفعه إلى مجلس الوزراء"، وكان قد اتخذ قرارًا نهائيًا بـ "إلغاء وثائق الاتصال الصادرة قبل 24 / 7 / 2014 ووقف إرسال وثائق جديدة ما عدا تلك المتعلقة بتهمة التعامل مع العدو الإسرائيلي والإرهاب المثبّت قضائيًا". فكيف لا يزال العمل في هذه الوثائق سائر المفعول "سياسيًا" ضدّ فئة معينة، وبطريقةٍ غير شرعية، بينما تستثني من تثبتتْ تهمته قضائيًا كعمالة الفاخوري؟
بين المخابرات و"الأمن العام"
تصدر "وثائق الاتصال" عن مديرية المخابرات في الجيش اللبناني، من دون إذنٍ قضائي. إذ إنّها تصدر بناء على معلومة أو إخبارٍ أو شبهة حول أحدٍ ما، ثمّ تُعمّم هذه الوثيقة متضمّنة معلومات أوّلية عن الحادثة المقصودة مع مكان وتاريخ حصولها. لكنّ إلغاءها في العام 2014 مع "لوائح الإخضاع" التي كانت تصدر عن الأمن العام، وهو ما اعتبر "إنجازًا" لحكومة سلام، جاء نتيجة ضغوط شعبية وسياسية وحقوقية، لا سيما أنّها كانت تتمُّ على أساسهما توقيفات عشوائية وغير قانونية بحقّ مواطنين "مشتبه" بقيامهم بأعمال يقال أنّها مخلّة بالأمن والنظام والقانون. إلّا أنّ هذه الوثائق التي يضعها مخبرون، وربما لغايات انتقامية أحيانًا، كافية لاستدعاء الشخص الصادرة بحقّه إلى التحقيق، وتوقيفه ثمّ إحالته إلى المحكمة العسكرية.
ووثائق الاتصال التي فقدت سند قانونيتها لأنّها غير صادرة عن جهة قضائية رسمية، تحولت مثلًا منذ سنوات إلى موضةٍ رائجةٍ في عاصمة الشمال، وكان قد صدر أكثر من 11 ألف وثيقة اتصال بعد أحداث الجبل والتبانة، وأعتُقل بموجبها كثير من الموقفين تعسفيًا، كما يجري استخدامها هناك في توجيه تهمة الارتباط بجهات إرهابية، وأغلبهم لا يكتشفون صدورها بحقّهم إلا أثناء إجراء معاملات رسميّة، أو لدى منعهم من السفر عبر المطار.
من دون إشارة قضائية
يشير محامي الموقوفين الإسلاميين محمد صبلوح لـ"المدن" أنّ هناك عشرات الملفات بقيت عالقة أمام المحكمة العسكرية، تستند إلى وثيقة اتصال، وغالباً ما تحكم المحكمة ببراءة المدعى عليه لعدم دقّتها. يرفض صبلوح منطق المزايدة، لكنه ينطلق من "ثغرات أجمع الجميع على وجودها في كيفية شطب اسم العميل فاخوري عن البرقية 303 وسط التباس إذا كان قرار الشطب هو تبرير استنسابي أو مستند إلى قرار مجلس الوزراء، علمًا أن قرار حكومة سلام كان واضحًا لجهة إلغاء وثائق الاتصال بإستثناء تلك المتعلقة بالتواصل مع العدو الصهيوني أو الإرهاب المثبت قضائيًا"، ويسأل: لماذا لم تلغَ حتى اليوم وثائق الاتصال تنفيذا للقرار الحكومة؟ ولماذا تمّ إلغاؤها على المتهمين بالتعامل مع العدو الصهيوني؟
يعتبر صبلوح أنّه في سبيل الشفافية، من المفيد للوزارات المعنية، لا سيما الدفاع والعدل والداخلية أن يطلعوا الرأي العام على عدد وثائق الإتصال والأشخاص المشمولين بها قبل قرار الحكومة أو بعده، وعن الأسماء التي جرى شطبها بعد هذا التاريخ، وإذا كان الشطب يستند إلى قرار مجلس الوزراء أم إلى اعتبارات أخرى. يقول: "كثير من موكلينا تمّ اعتقالهم استنادًا لبرقيات منقولة بعد تاريخ مجلس الوزراء خلافًا لمضمونه قرارها، كما تقوم الأجهزة الأمنية باعتقال الشباب الذين أنهوا العقوبة الصادرة بحقهم من دون إذن قضائي، وتحيلهم إلى وزارة الدفاع بحجة الوثائق الملغاة قانوناً. وهو مشهد يتكرر أسبوعيًا مع هؤلاء الشباب من دون وجه حقّ ومن دون إشارة قضائية".
يأسف صبلوح أنّ عددًا من الموقوفين الذين أوكلوه للدفاع عنهم، لا يزال احتجازهم وتوقيفهم مستمرًا بهذ الوثائق، رغم إنهاء محكومياتهم وخروجهم من السجن. وحين يأتي إلى النائب العام في المحكمة العسكرية، ويقدّم له وثائق الاتصال الملغاة، يقول له حرفيًا، وفقه: "إذا أعطيتك ردًّا على طلبك أنها ملغاة أكون قد شرعتها وهي غير شرعية"، يضيف: "الأجهزة الأمنية تمضي العمل بوثائق غير شرعية، والنيابة العامة لا تستطيع إلغاءها حتى لا يكون هناك اعترافًا بشرعيتها، والكل يخالف صراحةً قرار مجلس الوزراء من دون أدنى مساءلة من أحد، بينما على المقلب الآخر، جرى إلغاء وثيقة الاتصال بحقّ الفاخوري وقبله العميل إلياس عقل هاشم، وغيرهما الكثير من العملاء الذين أعطوهم لقب المبعدين قسرًا".
"التدبير الإداري" أو تجميل المصطلح
حاولت "المدن" أكثر من مرّة التواصل مع وزارة الدفاع للحصول على توضيحٍ أو ردّ في شأن تجاوزها القانوني بما يخصّ إصدار وثائق اتصال غير شرعية، لكنّ من دون جدوى، ولم يقبل أحد الردّ على الموضوع.
أمّا فيما يخصّ التوقيفات التي تحصل في مطار بيروت، فيشير مصدر من الأمن العام لـ"المدن"، أنّ وثائق الاتصال إذا كانت معممة على كلّ الأجهزة الأمنية، يكون للأمن العام علم فيها، وتجري التوقيفات على إثرها، ومن ثمّ يُحال الموقوف إلى الجهاز الذي يطلبه، سواء شرطة عسكرية أو أمن داخلي أو مخفر. وبعد هذا التوقيف، "تتأكد منه الضابطة العدلية، لتشير إما للمضي في توقيفه أو اطلاق سراحه أو إحالته إلى القضاء المختص". في المقابل، يلفت المصدر أنّه لم يعد هناك في الأمن العام ما يسمى بـ "لوائح الإخضاع"، بعد قرار حكومة سلام، إذ جرى إزالة ما توجب إزالته، وبرقيات أخرى مرّ عليها الزمن، وأصبح هناك ما يسمى بـ"التدبير الإداري"، بينما يؤكد صبلوح قانونيًا أنّ استبدال مصطلح "لوائح الاخضاع" بـ "التدبير الإداري"، ليس شرعيًا أيضًا إذا لم يكن بموجب إذن قضائي.
هذه التدابير الإدارية الصادرة عن الأمن العام، يحكي عنها المحامي عبد البديع عاكوم، وهو من صيدا كان موكلًا عن عدد من موقوفي أحداث عبرا، ويصف ما يحدث بـ"السلوك التعسفي" الفاضح. فـ"في أغلب الملفات، وتحديدًا في ملف عبرا، كلّ من نُفذت الأحكام بحقهم، يوقفهم الأمن العام من جديد. هناك أحد الموكلين، كان يريد مؤخرًا السفر، لكنّ الأمن العام أوقفه 24 ساعة، وسلّمه للجيش بحجة وثيقة اتصال، وأفرجوا عنه لاحقًا بعد أن عرفوا أنه انتهى من محكوميته". والسؤال القانوني: لماذا تبقى البرقيات سارية المفعول حتّى بعد انتهاء الموقوفين من محكوميتهم ويظلون حاملين صفة "المطلوبين"؟
"تدبير التفتيش" أيضاً
يشير عاكوم، أنّ "التدابير الإدارية" التي يصدرها الأمن العام، لا علاقة لها بالمطلوبين، وأنّ هناك ما يسمى بـ "تدبير التفتيش"، تحديدًا في المطار، حيث يجري توقيف المطلوب بموجبه عدد من الساعات لتفتيش كلّ ما في حوزتنه، من دون أن يعرف أحد السبب أو الخلفية. يقول:"لقد سبق أن تقدمنا بطلب لمكتب التحريات في الأمن العام، لتوضيح ما يحصل في تدابير التفتيش، والجواب دائمًا أن الموقوفين غير متهمين بشيء". أحد موكلي عاكوم مقيم في فرنسا، كلّما يأتي إلى لبنان يجد بحقه برقية تفتيش. كذلك الشيخ محي الدين عنتر من صيدا، يتكرر معه الموقف نفسه، وفق عاكوم، وفي كلّ مرة يذهب فيها إلى المطار يجد تدبير تفتيش بحقّه، "ويتأخر عن طائرته من دون سبب أو حجة قانونية وجيهة". قبل فترة "راسلني موكل سوري مقيم في لبنان، إقامته شرعية درجة ثانية، ولديه فيزا عمل بشكل قانوني، كان يريد أن يزور أهله في سوريا. وعند وصوله إلى الحدود، تمّ توقيفه بموجب برقية تفتيش، وهو لا يستطيع العودة إلى لبنان".
يؤكد عاكوم أنّ وزارة الداخلية مسؤولة عن عدم توضيح المعنى القانوني لهذا التدبير، لا سيما أنّه غير صادر عن جهة قضائية وإنما عن جهة إدارية خاصة بهم، ويقومون على إثرها بحجز حريات الموطنين، من دون وجه حقّ، ولو لساعات قليلة. ورغم أنّ مصادر الأمن العام تجزم عدم توقيف أحد من دون أن يكون عليه شبهة، يستغرب عاكوم هذا لأنّ القاضي هو من يقرر هذه الشبهة وليس أيّ جهات أمنية أخرى، ولا يحق لهم إرسال برقيات توقيف بحق المواطنين من دون سند قانوني.
أشرف ريفي: غاية حزب الله
في حكومة تمام سلام، كان اللواء السابق أشرف ريفي وزيرًا للعدل، وكان من أكثر الساعين لإصدار قرار يمنع العمل بموجب وثائق اتصال ولوائح اخضاع غير شرعية، ويشير في حديث لـ"المدن" أنه كان جزءًا من فريقٍ طرح ضرورة إلغاء وثائق الاتصال ولائح الإخضاع، لأنها ليست قانونية، لا سيما أنّ التوقيف أو الاحتجاز "يجب أن يرتبط بقرار من سلطة قضائية حصرًا وليس من أيّ سلطة إدارية أخرى أو أمنية"، يقول: "كان لدينا النشرة في قوى الأمن الداخلي، تصدر عن القضاء، وكانت وثائق الاتصال ووثائق الاخضاع توضع في النشرة وتُعمم. ثم أخذنا قرارًا في مجلس الوزراء حينها، بأن لا لوائح الإخضاع الصادرة عن الأمن العام ولا وثائق الاتصال الصادرة عن قيادة الجيش قانونية. وعلى إثره، صدر قرار من مجلس الوزراء مجتمعًا، يمنع العمل بهما".
لكن، وبكل أسف حسب وصف ريفي، "رفضت حينها قيادة الجيش وقف العمل بوثائق الاتصال الصادرة عنها. وما حدث في ذلك الوقت، أن مدعي عام التمييز سعيد ميرزا أعطى تعميمًا أنّ هذ الوثائق واللوائح لا تُعمم على النشرة في قوى الأمن، بصيغة غير قانونية، إن لم تكن صادرة عن مجلس الوزراء، يضيف ريفي: "لكن قيادة الجيش اتفقت مع الأمن العام، وصار يعمم وثائق الاتصال الصادرة عنه على حواجزه وعلى الأمن العام، وفيما خفف الأمن العام عمله بلوائح الاخضاع، ثمّ ما لبث أن عاد إليها بصيغٍ مختلفة بما يخالف قرار مجلس الوزراء".
يفتخر ريفي أنّه كان أول المطالبين بعدم توقيف أحد من دون قرار قضائي، ويعتبر أنّ المضي بوثائق اتصال غير شرعية، رغم أنّ السلطة استمرارية ومن المفروض أن تطبق الحكومة الحالية قرار الحكومات السابقة، هو نابع من قرار سياسي يلقى دعم فريق حزب الله. و"المفارقة الأغرب، هو أنه في حكومة تمام سلام، كان هناك وزيرين لحزب الله، وافقوا على قرار إلغاء الوثائق، لكن الحزب في الصميم لم يرد تطبيقه، لأن لديهم رسائل سياسية من خلفها، وقد بات واضحًا أنّ هناك هدفاً سياسياً موجهاً ضدّ طائفة بعينها". فـ"حين نجد أن هناك عميلاً يسحبون اسمه، بينما أبناء طائفة أخرى، لا ترقى تهمتهم لمستوى العمالة والتنكيل بالشعب اللبناني والتآمر عليه، ولا تقارن بالعمالة، تبقى أسماؤهم على وثائق الاتصال، ولا أحد يحذفها نهائيًا، وهذه مسؤولية مشتركة تتحملها السلطة السياسية والعسكرية ووزارة الداخلية والدفاع والعدل"، يختم ريفي.
جنى الدهيبي - المدن