يعيش لبنان اليوم ممزقاً بين صور أربع، عنوانها الأساسي العام الخطر الاقتصادي والمالي:
مستثمران: حزب الله وبري
الصورة الأولى لرئيس الجمهورية ميشال عون مع صهره وزير الخارجية جبران باسيل، في "حضرة" رئيس الجمهورية الإسلامية الإيرانية حسن روحاني ووزير خارجيته محمد جواد ظريف.
الصورة الثانية لمرشد الجمهورية الإسلامية في إيران علي خامنئي مع أمين عام حزب الله السيد حسن نصر الله، وقائد فيلق القدس قاسم سليماني.
الصورة الثالثة للرئيس عون أيضاً، متنصلاً من مسؤولياته كلها، موجهاً اتهاماته إلى وزير المالية وحاكم مصرف لبنان.
الصورة الرابعة للتحركات التي شهدتها بيروت وبعض المناطق، احتجاجاً على الأوضاع الاقتصادية يوم الأحد 29 أيلول.
يغيب عن الصور كلها حزب الله، ورئيس الحكومة سعد الحريري. حزب الله يستفيد كيفما اتجهت الرياح، وقادر على الاستثمار بعون، والرد على حاكم مصرف لبنان رياض سلامة والعقوبات الأميركية. وقادر على الوقوف إلى جانب الرئيس نبيه بري، وفتح الطريق للاحتجاجات، للضغط على الحكومة، وتطويع الجميع، وإيصال رسالة إلى المجتمع الدولي أنه قادر على الردّ على العقوبات.
أما الحريري فينظر إلى هذه الاشتباكات السياسية المتشابكة، وقلبه على حكومته ومشاريعها، ومضطرّ لمسايرة الجميع تجنباً لحصول ما هو غير محسوب.
في احتجاجات الشارع
كل شيء في لبنان قابل للتحول إلى اشتباك سياسي. هذا ما حصل حيال موقف رئيس الجمهورية من الأزمة، بعدما حمّل مسؤوليتها إلى وزير المال وحاكم المصرف المركزي، نافياً علمه بما حصل، تمهيداً للدخول في اشتباك جديد مع رئيس مجلس النواب نبيه برّي، على خلفية جلسة مجلس النواب الأخيرة. فالاصطفاف الذي حصل، يجعل عون والرئيس سعد الحريري وحكومته عرضة للتجاذب، لا سيما بعد موقف الحريري إلى جانب برّي. والمعركة السياسية التي فتحها عون تستهدف أيضاً حاكم مصرف لبنان، لحسابات متعددة، بينها رئاسية، وتتعلق بالعقوبات على حزب الله.
أما التحركات في الشارع - على الرغم من أحقية الناس بالتظاهر اعتراضاً على الواقع المعيشي - فتبدو قابلة للاستثمار من طرفين: حزب الله يستثمرها للرد على العقوبات الأميركية. وحركة أمل تستثمرها للرد على رئيس الجمهورية.
سرور باسيل – نصرالله المدمر
لبنان الممزق اليوم، مختلف جذرياً عن لبنان القديم أو المعروف، ذاك الذي كان يرتكز شطر كبير من اقتصاده على موردين: تكافل اجتماعي تمثله التحويلات الخارجية، والاستثمار والدعم العربيين. فقد لبنان هذين الموردين، بعدما أصبح جزءاً لا يتجزأ من المحور الإيراني. فمنطق هذا المحور قِوامه "الانتصارات" في الداخل لصالح الخارج، على حساب الدولة اللبنانية ومؤسساتها واقتصادها. فجماعات الممانعة لا يضيرها إحراق دول بأسرها، مقابل السيطرة عليها، ولو كانت السيطرة على دمار. فلبنان، على ما يقول الإيرانيون، هو حدود جمهوريتهم الإسلامية، تماماً كسوريا والعراق اللذين ليسا سوى إمتداد لإيران. هذا الواقع يناقض توجهات سعد الحريري وطموحاته في عزل لبنان عن هذه الحرائق، لينهض اقتصاده.
الانهيار الإقتصادي الذي يعيشه لبنان هذه الأيام، ليس إلا انعكاساً للانهيارات في سوريا والعراق واليمن. وموقف وزير الخارجية جبران باسيل الرافض إدانة الإعتداء على آرامكو، ولقاؤه بعد ساعات الرئيس الإيراني ووزير خارجيته، لا يحتاج إلى كثير من الشرح. فالصورة التي أظهرته خاشعاً، شاخص العينين المتضرعتين أمام روحاني وظريف، تفضح ما يحاول الرجل إخفاءه: التشاطر في مسألة علاقات لبنان بإيران وبالعرب. أمنيات باسيل وآماله الظاهرة في عينيه حيال توسله إلى روحاني، تكشف حلمه: حصانة إيرانية، تلاقيها إيجابية أميركية.
صورة باسيل هذه انعكاس لصورة نصر الله مع خامنئي وسليماني: لبنان في قلب المحور المعادي للعرب، والمتنامي على انكساراتهم، من بيروت إلى صنعاء، مروراً ببغداد ودمشق. لهذا الموقع ثمن لا بد من دفعه، ليس لأن المجتمع الدولي يعارض سقوط لبنان في القبضة الإيرانية، بل لأن المجتمع الدولي، وعلى رأسه واشنطن، يستثمر في هذه الإنكسارات، ويمسك بأوراق الابتزاز، من بينها "جنات لبنان الموعودة"، من ترسيم الحدود إلى استخراج النفط والحصول المساعدات، والتي لن يفرج عنها قبل الاتفاق الأميركي - الإيراني.
بعد سقوط العراق وسوريا، ونقل المعركة إلى قلب الخليج ومياهه وإلى اليمن، يصبح سقوط لبنان تفصيلاً. فمنذ تسوية "السين سين" صار متروكاً، ونسيه العرب على ضفة الممر الإيراني إلى المتوسط. وما يتعرض له الخليجيون من ابتزاز، هو نفسه ما تعرّض له سعد الحريري في لبنان ولا يزال، على الرغم من كل ما قدّمه وتنازل عنه.
يتحمل الحريري جزءاً أساسياً من المسؤولية، لكنه أيضاً يُحمّل ما لا يتمكن العرب جميعهم من تحمّله. فيُلام لبنان على سقوطه بيد إيران، بينما دول أكبر وأقدر منه بكثير خسرها العرب. يتعرض لبنان إلى عملية ابتزاز مماثلة للابتزاز الإيراني لدول الخليج. الابتزاز هنا سمة لبنانية صرفة. فكما تتصرف إيران بمنطق "عليّ وعلى أعدائي"، وأن ليس لديها شيء لتخسره. تنفذ عملياتها من دون أي ضوابط وتنتصر. وبانتصاراتها يعمّ الدمار.
هناك طرف لبناني جديد اليوم يسير في الركب الإيراني المدمر، ومهجوس بالانتصارات السلطوية على حساب السلطة ذاتها، لا يعنيه دمار أو انهيار، بقدر ما يعنيه التعايش مع حال الانتصار المدمر.
منير الربيع - المدن