"التفاهم"، وهو التسمية الرسمية للتحالف الوثيق أو ربما الذي كان وثيقاً يوم إعلانه قبل عقد وبضع سنوات، بين "حزب الله" و"التيار الوطني الحر" تعرّض الى امتحانات عدّة منذ إعلانه من كنيسة مار مخايل الكائنة في الشياح التابعة سياسياً وجغرافياً للضاحية الجنوبية للعاصمة. لكنه تجاوزها بنجاح حتى الآن وساعدته في ذلك عوامل عدّة متنوّعة. فمؤسّس "التيار" العماد ميشال عون قرّر العودة من المنفى الفرنسي الذي استمر قرابة عقد ونصف عقد. وما كان ذلك ممكناً من دون ترتيب أوضاعه مع السلطة الحاكمة في حينه برعاية وحماية من سوريا الموجودة في لبنان سياسياً وعسكرياً وأمنياً واجتماعياً. فبدأ اجراء الترتيبات اللازمة عبر أصدقاء له نافذين عند الجهتين المذكورتين ونجح في التوصل معهما الى تسوية مشكلاته القانونية كلها، والى التفاهم المبدئي وغير التفصيلي ربما معهما على الخط السياسي الذي سينتهج بعد العودة والذي لن يكون معادياً لسوريا ونظامها وحلفائها في لبنان، والذي سيسمح له بتحقيق طموحاته السياسية وأهمها على الاطلاق الوصول الى رئاسة الجمهورية. أمّا النجاح الذي حققته سوريا أو أرادت تحقيقه من عودة عون بعد التفاهم "الموثّق" معه فكان وجود فريق مسيحي ذي تمثيل شعبي واسع، قادر على مواجهة أو على الأقل على خرق الساحة المسيحية التي كانت "قواها" الشعبية في غالبيتها معادية لها وللنظام اللبناني الذي أسّست. وبذلك تكون ضمنت سوريا وقوف "شعوب" لبنان كلها معها رغم أن عواطف البعض منها لم تكن عملياً معها وكذلك بعض زعاماتها الكبيرة. وذلك كانت تعرفه دمشق وتحتاط له لكنها لم تخف منه يوماً، لأنها كانت مقتنعة بقوتها وبصلابة حلفائها الحقيقيّين وبتساهل المجتمع الاقليمي ولا سيما الغربي معها على الصعيد اللبناني.
لكن أمراً جللاً حصل عام 2005 وهو استشهاد الرئيس رفيق الحريري الحليف الرسمي لسوريا, وفي الوقت نفسه الساعي من دون كلل أو ملل الى إعادة بناء لبنان والى إحياء اقتصاده، معتبراً ذلك الوسيلة الوحيدة لاستعادته من سوريا ولكن من دون تحوّل علاقة الأخوّة معها عداء. طبعاً عكس ذلك مثالية عنده وأبقى "أسدا" سوريا "منتبهيْن" له كي لا يذهب بعيداً في طموحاته الوطنية والقومية، فيؤسّس حالاً معادية لهما أو يرعى حالاً كهذه ليس في لبنان فقط بل في بلادهما أيضاً. إلا أن التطوّر الدراماتيكي المذكور جعل من عودة عون من منفاه حاجة ملحة في ضوء "التلاحم" أو بالاحرى التوافق بين شعوب لبنان باستثناء "الشيعة"، على ضرورة استغلال الفرصة لإخراج سوريا بوجوهها المتعدّدة كلها من لبنان، ولإسقاط النظام الذي أسسته فيه منذ عام 1989. فهو رسمياً جزء من فريق 14 آذار، لكن بينه وبين سنّتها ودروزها ومسيحييها ما صنع الحدّاد. وعاد بهذه الصفة الى بلاده. لكن التفاهم كان يقضي بالتقاط أي فرصة جديّة تلوح للتحوّل تنفيذاً للاتفاق المُشار اليه أعلاه وتحقيقاً للطموحات الرئاسية المعروفة. وكانت الانتخابات النيابية المقررة في سنة عودته الفرصة المنتظرة، إذ جعلت خصومه السياسيين يخشون "التسونامي" فيه ولا يلبّون طلباته كي يحالفهم انتخابياً فسار وحده معتمداً على حلفاء سوريا داخل النظام اللبناني وخارجه. لكنّ "حزب الله" بقي انتخابياً في تحالف ضم الى "الثنائية الشيعية"، وهو جزء مهم منها، غالبية 14 آذار. وما كان يجمع عون في حينه بـ"حزب الله" علاقته بحليفي الأخير أي سوريا والنظام اللبناني الذي "صمد" ولم يهتز كما تمنى كثيرون، موفراً بذلك الفرصة لبقاء سوريا في لبنان سياسياً وأمنياً مباشرة وبواسطة الحلفاء، ومفسحاً في المجال أمام علاقة مباشرة بين عون و"حزب الله" كان الاثنان في حاجة اليها، ولا سيما بعدما أظهر "الحزب" وسوريا ولحود و8 آذار، قبل تحوّله حليفاً، أنهم صاروا أقوياء يستعصي التخلّص منهم، ويستحيل الوصول الى الرئاسة أو أي موقع آخر من دونهم. علماً أن هناك عاملاً آخر ساعد في تثبيت الواقع المناهض لـ14 آذار هو تحول "حزب الله" قائداً للفريق الآخر بالشراكة مع سوريا ثم لاحقاً قائداً وحيداً له، وهو أيضاً دخول إيران الاسلامية الساحة اللبنانية والسورية والعربية بقوّة وتصميم كبيرين، وهو ثالثاً ضعف المحور العربي المتنوّع المناهض لسوريا وإيران، وهو رابعاً وأخيراً يأس المجتمع الدولي من لبنان وإهماله له، وغيابه عن لوائح بل شاشات الاهتمام الفعلي لأميركا ودول كبيرة أخرى. طبعاً أثبتت التطورات التي حصلت بعد المرحلة المفصّلة أعلاه وفيها تفاهم مار مخايل بين عون و"حزب الله"، وحرب الـ2006 الفاشلة إسرائيلياً وانتخاب عون رئيساً للدولة وفوز الاثنين بتحالف نيابي مهم في الانتخابات الاخيرة، رغم بعض الانقسامات داخلها، أثبت أن تفاهم مخار مخايل ثابت ومتين وأن الطرف الأقوى فيه أي "الحزب" وراعيه الأول إيران ستكون لهما كلمة مهمّة جداً في استحقاقاته القريبة والبعيدة، وإن ليس الكلمة الوحيدة وخصوصاً في الكبرى منها.
لماذا هذا الكلام الآن عن تفاهم عون - "حزب الله"؟ هل لأنه يهتز؟ وهل هو مهتز فعلاً؟ وما هو مستقبله؟ وهل يمكن منذ الآن التكهّن حول هذا المستقبل؟
ليس الهدف من هذا الكلام بل من تناول هذا الموضوع إثارة حساسيات أو التعرّض لأي مقام ولا لأي رئيس وأي حزب. بل هو شرح معلوماتي موضوعي الى حد بعيد لعلاقة سمّيت رسمياً تفاهماً ومورست تحالفاً واختلف طرفاهما أكثر من مرّة علناً في الأساسيات وفي غير الأساسيات. فهذا التفاهم كان مهماً رغم جنوح أحد طرفيه ثم ربما طرفيه نحو "أقلوية" ما عزّزت أقلويات أخرى في دولة فاشلة ومزيّفة وكل طائفة أو مذهب فيها يعتبر نفسه أمة.
سركيس نعوم - النهار