أن يعلن رئيس الجمهورية ميشال عون موقفاً انفعالياً على نحو متذمر، ردّاً على سؤال حول الأزمة المالية قائلاً: "أنا كنت في نيويورك، اسألوا المعنيين. هناك مسؤول عن النقد وهو حاكم مصرف لبنان، وهناك مسؤول عن المال، هو وزير المال. أنا لست على علم بما حصل خلال غيابي عن بيروت"، فهذا خير دليل على ما يواجهه اللبنانيون من رأس سلطتهم. ومقابل القلق والاضطراب والخوف على مصيرهم وعلى معيشتهم، يجدون أقطاب سلطة إما صامتين أو متجاهلين أو لا مبالين أو "مغتربين"، وفي كل الأحوال يتقاذفون الاتهامات ويتهربون من واجبهم، ويتبرؤون من كل المشاكل في البلد.
نظرية المؤامرة
بدا الرئيس وكأنه عاد للتو من منفاه، وكأنه ليس في سدة الرئاسة والمسؤولية، وكأنه ليس هو الذي دعا إلى اجتماعات اقتصادية ومالية في بعبدا.
أصلاً، هذا دأب ميشال عون وتياره، إنكار شراكته منذ 13 عاماً على الأقل في السلطة وفي الحكومات. هذه اللعبة أكثر من يجيدها الرئيس ميشال عون والتيار الوطني الحرّ. السيئات والإخفاقات والفشل والفساد سمة الآخرين ومسؤوليتهم وحدهم، أما "التيار" فيكفيه ترداد شعارات "التغيير والإصلاح" ولو لم يتحقق شيء منها، ليدعي براءته من دم الجمهورية ومن خراب أحوالها.
كلام عون لا يختلف عن كلام وزير الخارجية جبران باسيل، الذي لجأ إلى المخيلة الشعبوية مجدداً مستعيناً بـ"نظرية المؤامرة" المبتذلة. "مؤامرة على العهد". عبارة سحرية كي يتملص "الوزير الأول" (الذي يحوز الثلث الحكومي وأكثر) من كل تبعات سياساته هو ووزاراته وخططه ومشاريعه.
بوجه الحريري وبرّي
على الأرجح، ما قاله باسيل وفعله هو حقاً "مؤامرة" بحد ذاتها على الناس، وتحضيراً لمعركة سياسية يستعد التيار الوطني الحرّ لفتحها. يتحدث عون وباسيل، وكأن البلاد في حالة فراغ رئاستين تستهويهما لعبة "المعارضة" ولو هما داخل السلطة. فهذه اللعبة هي التي تحفظ لهما الشعبية وتعززها.
كلام عون وباسيل بداية لمعركة سياسية مع قوى متعددة، أولها رئيس مجلس النواب نبيه بري، وثانيها رئيس الحكومة سعد الحريري، من أجل المزيد من التطويع، ورداً على وقوفه إلى جانب برّي والاشتراكي في جلسة مجلس النواب الأخيرة. والغاية من تطويعه بحربهما على مصرف لبنان وحاكمه وعلى مؤسسات أخرى "خدماتية ومالية" كي لا يخرج عن ما يرسمانه له، وإبتزازه الدائم في بقائه رئيساً للحكومة بإرادتهما.
حفلة ابتزاز
يريد عون أن يتعالى عن شؤون الحكم الفعلية، وأن يفصل نفسه عن غيره من السياسيين. وهذا من طباعه وشخصيته واعتقاده بنفسه منزّهاً. وهو على هذه الصورة بنى زعامته. فلا يتوانى عن تحميل مسؤولية الأزمات لكل الآخرين. فالحريري يبقى خاضعاً لهم ومهدداً باتهامات "الإبراء المستحيل" وبوصفه المسؤول الأصلي عن الفساد. والسهام مصوبة دوماً على رئيس مجلس النواب نبيه بري ووزير المال علي حسن خليل. والمعارك لم تهدأ أصلاً مع حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، الذي جددوا له اضطراراً وبناء على تسوية ولايته للحاكمية. لكن سلامة ليس طيعاً كما يشتهون. لذا تبقى الحاجة الدائمة لشن الحملات عليه. إضافة طبعاً إلى الرغبة العميقة في حرقه "رئاسياً".
جزء من الحملة التي يريد عون وباسيل فتحها بوجه برّي، تتعلق باقتراحه لقانون انتخابات جديد، الذي لا يناسب التيار الوطني الحرّ. وبدأت تظهر ملامح انقسام طائفي حول هذا القانون. وبالطبع هذا النوع من الانشطار الاسلامي المسيحي وحده يفيد التيار في الشارع المسيحي، على نحو يؤمن له مهرباً من أي مساءلة للأداء في الحكم، ويضع الأمور كلها في خانة المؤامرة الكونية على حقوق المسيحيي، فتنتفي عندها المحاسبة. فالجواب جاهز دائماً: الأزمات جزء من التركة أو الإرث الثقيل للعهود السابقة، التي لا يتحمل مسؤوليتها رئيس الجمهورية.
بهذا المعنى، كل ما يجري حفلة ابتزاز كبرى يتعرض لها اللبنانيون، من قبل القوى السياسية، علاوة عن تبادل الابتزاز الكبير فيما بين القوى السياسية نفسها. وهذا يطال أيضاً رئيس الحكومة، الذي بظن عون وباسيل يبقى ممنوع عليه رفض مشاريع تقدموا بها في مجلس النواب أو مجلس الوزراء.
ثلاثة خيارات
الأزمة التي يعيشها لبنان، والتي بدأ التمهيد لها منذ فترة، هي عبارة عن عملية احتيال كبيرة على اللبنانيين. ومصرف لبنان على علم أن لا حل من دون ارتفاع سعر الدولار، لأسباب عديدة، منها خروج كم كبير من عملة الدولار إلى الخارج، وانخفاض بنسبة 75 في المئة من التحويلات المالية إلى لبنان ، وغياب الاستثمارات.. فعمد المصرف إلى حجب الدولار عن السوق والاحتفاظ به.
كان لدى أركان السلطة ثلاثة خيارات. الأول، هو فرض ضريبة عالية على الودائع المصرفية. وهذا لا يوافق عليه كبار المودعين والأغنياء (وهم لصيقو السلطة وأركانها). والخيار الثاني رفع الضرائب العامة والضريبة على القيمة المضافة والضريبة على البنزين، ورفع تعرفة الكهرباء والماء وغيرها. لكن هذه أيضاً لا تناسبهم شعبياً وستفتح المجال أمام تحركات شعبية وقد تتولد عنها احتجاجات كبيرة. فيما الخيار الثالث هو رفع سعر صرف الدولار مقابل الليرة اللبنانية. فعندما يرتفع الدولار يتم إلقاء اللوم على السوق وعلى أمر واقع اقتصادي، بينما مصرف لبنان لا يتدخل.
هذا بالضبط ما يستحق وصفه "مؤامرة" تهدف إلى رفع الدولار بضوابط، ليصل إلى سعر قد ينهاز 2000 ليرة. وبعدها يتدخل مصرف لبنان لتثبيته على هذا السعر، وهكذا يكون قد تم تخفيض قيمة الرواتب والأجور، وخدمة الدين العام.
منير الربيع - المدن