لا يمرُّ يوم على لبنان لا تُظهِر فيه الشّيعة العونيّة فصلاً من فصول تقيّتها السياسية الكثيرة، والمتدافعة الأقنعة، إمعاناً منها في تسعير الشّقاق اللبناني.
الشعبويّة العونية
بدأت تلك التقيّة الانشقاقيّة بعودة الجنرال ميشال عون إلى بيروت في 2005، وانقلابه على الحركة الاستقلالية اللبنانية. ومن ثم توقيعه اتفاق "التفاهم" مع حزب السلاح المقدس سنة 2006. وتابع عون وتياره تقيّتهما بإصرارهما المستميت على تعطيل المؤسسات والاستحقاقات الدستورية، للوصول إلى رئاسة الجمهورية الذي تحقق للجنرال في 2016.
والإصرار ذاك جرَّ تياراً مسيحياً وازناً وواسعاً إلى السّير خلفه في نهج سياسي شعبوي غايته الانتقام من الحريرية السياسية، التي زعمت العونيّة أنها استولت على الدور السياسي التاريخي الراجح للمسيحيين في لبنان الدولة والإدارة والمناصب. وكأن ذاك الدور موقوف أبدياً على المسيحيين وحدهم، من دون سواهم، في المخيلة العونية التي قصرت لبنانية المسيحيين على الأحقاد والضغائن، بغية استيلاء الشّيعة العونية على مناصب الدولة والحكم، لتسويغ المشروع المذهبي الإقليمي لحزب السلاح الإيراني في لبنان. وتحديداً في البيئة المسيحية اللبنانية التي ناهضتْ حركتُها الاحتجاجية السلميّة الاستيلاء الأسدي السوري على لبنان، منذ فرار العماد عون من القصر الجمهوري إلى فرنسا، بعد خوضه حربين داميتين ومدمرتين للبنان، وللمجتمع المسيحي على وجه التخصيص.
والعونية السياسية نقلت خوف المسيحيين من حزب السلاح الإيراني على لبنان، إلى خوف من الإرهاب السُّني، الذي وصمت به تيار المستقبل أثناء الثورة السورية التي حوّلها نظام الأسد مقتلة لتدمير سوريا وتشريد الملايين من شعبها، تحت شعار: "الأسد أو نحرق البلد".
التعايش: رعاية الشِّقاق
أمس في نيويورك شهدنا فصلاً أميركياً من تلك التقيّة العونيّة الشِّقاقية المارقة والمسمومة. فبمناسبة افتتاح أعمال الدورة 74 للجمعية العامة للامم المتحدة، وتجاوباً مع الشعبوية المسعورة التي يجسدها الرئيس الأميركي دونالد ترامب، كلّف الرئيس عون وزير الدولة لشؤون رئاسة الجمهورية سليم جريصاتي، تمثيله في الندوة التي عقدت في قاعة المحاضرات بمبنى الأمم المتحدة، بعنوان "دعوة عالمية لحماية الحرية الدينية". بعد الندوة أطنب جريصاتي في مديح كلمة ترامب، فاعتبرها "حدث اليوم في موضوع تعايش الأديان واحترام حرية المعتقد"، مؤكداً أن "هذا الموضوع يهمنا كثيراً، ولا سيما أن لبنان مختبر لتعايش الأديان وحرية المعتقد وللحريات العامة".
في مخيلة جريصاتي العونيّة يقتصر "التعايش" اللبناني على الشِّقاق الذي ترعاه في لبنان الشِّيعيّة الإيرانية الحربيّة وتابعتها الشّيعة العونية المسيحية، ولفيفهما من المقيمين على ولائهم المستميت لنظام الأسد الدموي: بقايا فاشييّ عقيدة أنطون سعادة، وأنصار الأمير طلال أرسلان ووئام وهاب الطامحين إلى تصدر الشِّقاق الدرزي على الزعامة الجنبلاطية، و"اللقاء التشاوري" النيابي وشِقاقه على الزعامة السنية الحريرية.
هذر باسيل النيويوركي
وفي رحلته الاغترابية، تسويقاً لوراثته عمّه رئيساً لجمهورية الشِّقاق، حلّ وزير الخارجية جبران باسيل ضيفاً على أكاديمية ويست بوينت العسكرية، أعرق المدارس الحربية في الولايات المتحدة الأميركية. وأطرب رئيس الأكاديمية العسكرية باسيلَ في شرحه له تاريخها ذاكراً الضباط اللبنانيين الذين درسوا فيها.
وعقد باسيل ندوة مع الطلاب الذين يدرسون اللغة والثقافة العربيتين في الأكاديمية العسكرية. فدار حوار تحول فيه الوزير اللبناني منظراً في موضوع العلاقة بين العسكر والسلطة المدنية. ولا ندري إن كانت تقيّة باسيل المهذارة تقصد بالعسكر حزب السلاح الإيراني المقدس في لبنان، المتفاهم مع الشِّيعة العونيّة التي وصلت بالتعطيل والإرغام إلى رئاسة الجمهورية. وعرض باسيل تاريخ هذه العلاقة في منطقة الشرق الأوسط فذكّر بأهمية النموذج اللبناني الذي فصل بين العسكر والنظام السياسي، مشددا على أن "لبنان دولة ديمقراطية ولم يشهد أي انقلاب عسكري".
طبعاً، لا يزال باسيل يحسب أن حروبَ عمه الجنرال المدمرة حروبُ تحرير. وهي لم تتكشف إلا عن تقيّة عونيّة لخداع اللبنانيين، ومسيحييهم خصوصاً، بأنها حروبٌ لتحرير لبنان ودولته من الاحتلال الأسدي والميليشات، فيما كان عون يساوم ديكتاتور سوريا للبقاء في القصر الجمهوري، وتنصيبه مثله رئيساً عسكرياً لديموقراطية الحروب الأهلية في لبنان، والتي ختمها بحربيه المدمرتين، وسلّم لبنان أشلاء للنظام الأسدي.
وعاد باسيل إلى هذره المستل من المحفوظات المدرسية: "لبنان صاحب رسالة أهّلته لإقرار مشروع الرئيس عون في الأمم المتحدة بإنشاء أكاديمية الإنسان وحوار الثقافات". وهو حوار لا يتجاوز في المخيلة الباسيلية الفولكلور الزجلي اللبناني المتمحور حول كأس العرق وجرن الكبة والمحدلة والتبولة التي لم يتوقف باسيل عن مديحها في جولاته الشّقاقيّة في الديار اللبنانية وديار الاغتراب اللبناني.
وما دام "الإرهاب" يناسب السوق النيويوركية، قال باسيل: "لبنان دولة تحتضن التنوع الذي ساعد المجتمع اللبناني على مواجهة الإرهاب والانتصار عليه. والنموذج اللبناني التعددي هو النقيض للأرهاب وللأكاديمية التي تساعد على صون التنوع الذي أدى الى مواجهة داعش".
هل أراد باسيل أن يمحوَ اسمه - حسب سوق التكهنات الكثيرة - عن قوائم العقوبات الأميركية الداعمة للإرهاب الإيراني وجيشه المقدس في لبنان؟
باسيل يتصرف ويتكلم على طريقة الشعبويين اليوم في العالم كله: لكل مقام كلامه المعسول، وكلام النهار النيويوركي يمحوه الليل في بيروت، والكذب ملح الرجال.
والرجال الرجال - من لبنان المشرف على الانهيار، إلى سوريا المدَمرة، إلى العراق الذي لا يعرف كيف يخرج من ارتجاجه الدامي - هم صُنّاع الشِّقاق الأهلي وحلف الأقليات من طهران إلى بيروت.
محمد ابي سمرا - المدن