ليّن مساعد وزير الخزانة الأميركي، مارشال بيلغنسلي، من حدّة لهجته التي بدأ بها زيارته إلى لبنان. ليونته بانت في مواقف أطلقها أمام الرئيس نبيه بري والشخصيات التي التقاها بعده، عندما اعتبر أن الإجراءات الأميركية لا تستهدف طائفة بعينها. اللقاء بين بيلغنسلي وبرّي كان مفصّلاً، فلم يترك رئيس المجلس نفسه في موقع المستمع، بل في موقع المحاجج، وأخذ على عاتقه تسلّم هذا الملف للتعامل مع الأميركيين، تماماً كما تسلّم من قبل ملف مفاوضات ترسيم الحدود. وعليه، استبق برّي حديث زائره، بتقديم قراءة ومعطيات شاملة حول العقوبات وآثارها على لبنان. مشدداً على أن هذه العقوبات تستهدف لبنان بشعبه ومكوناته، ولا تستهدف حزب الله فقط. وهي لا تؤدي إلى ابتعاد الناس عن حزب الله، إنما تزيدهم تمسكاً وإصراراً بخيارات الحزب.
فصل لبنان عن حزب الله!
كان برّي قد حضّر ملفه بشكل مفصّل، بأسماء وأرقام لرجال أعمال لبنانيين ومؤسسات لبنانية، تعرّضت للعقوبات، معتبراً أنها تضرّ بلبنان ككل، وأكد برّي أمام ضيفه، أن لبنان لن يسير بهذه الإجراءات وقد طفح الكيل منها. مرر برّي رسالته، التي دفعت بيلغنسلي إلى تخفيف حدّة خطابه وكلامه. لكن أيضاً من دون التنازل عن المبدأ أو التراجع عن التحذيرات التي وجهها للمسؤولين اللبنانيين، بوجوب الابتعاد عن حزب الله، وأن العقوبات ستشمل كل الذين يقدمون له الدعم العيني والمالي والسياسي والعسكري.
صحيح أن الإدارة الأميركية، تريد الفصل بين حزب الله ولبنان، وتريد الفصل في تعاطيها مع حزب الله عن تعاطيها مع إيران، بمعنى أن واشنطن ستستمر بسياسة فرض العقوبات على الحزب، حتى وإن دخلت في مفاوضات مع إيران، وفق ما يؤكد مسؤولون أميركيون، لأنهم يمانعون بأي شكل سيطرة حزب الله على مفاصل الدولة اللبنانية. لكنهم أيضاً، يعرفون أن العقوبات لن تؤدي إلى أي حل. وبالتأكيد، يعلمون أن شعبية حزب الله لا تتناقص بفعل هكذا إجراءات، خصوصاً أنه مع كل تشدد يعيشه حزب الله، يجد نفسه أقوى، وجمهوره يلتحم خلفه أكثر، تماماً كما هو حال إيران.
إرضاء الحزب والأميركيين!
وما يعلمه الأميركيون أيضاً، أن ما استطاع حزب الله تكريسه في لبنان من موازين سياسية وعسكرية، يستحيل معها خروج أي طرف سياسي على الحزب وهيمنته، أو ينفضّ عنه، طالما يرتبط بحسابات سياسية وطموحات سلطة، لأن اللبنانيين أصبحوا قانعين أن لا مجال لبلوغ السلطة وجنتها من دون موافقة الحزب ورضاه. ولذا، فعالية الحزب وتأثيره في المجريات اللبنانية، تعني القوى اللبنانية الأخرى أكثر بكثير من فعالية الإجراءات الأميركية، التي يخشونها أيضاً ويحاولون تجنّبها، عبر إطلاق مواقف متناقضة ترضي حزب الله والأميركيين في آن واحد، تماماً كما يفعل الوزير جبران باسيل، الذي تلقى تحذيرات عديدة حول وجوب موازنة مواقفه كي لا تشمله العقوبات. ولذلك مرر موقفاً في واشنطن، قال فيه أنه يعارض موقف حزب الله من إيران، معتبراً أن هذا الموقف لا توافق عليه الحكومة. ولذلك قال أيضاً إن قرار الحرب والسلم هو بيد رئيس الجمهورية، القائد الأعلى للقوات المسلحة، وفي الحالات الخطرة والاستراتيجية يعود القرار إلى مجلس الوزراء مجتمعاً. حزب الله لم ينزعج من كلام باسيل، لا بل يتفهمه ويحتاجه، كما يحتاجه وزير الخارجية.
على عاتق برّي
لهذه الأسباب تجد القوى اللبنانية الفاعلة في التسوية نفسها في مكان غير بعيد عن حزب الله، وباحث دائم عن إرضائه، وهذا يتجلى في الموقف من العقوبات، كما في التعاضد خلف الحزب على خلفية الإعتداء الإسرائيلي في الضاحية الجنوبية وتنفيذ حزب الله لردّه. وبالتالي، يحصّن الحزب نفسه سياسياً. فعلى الرغم من تأثير العقوبات عليه، إلا أنه في المعايير السياسية لا يزال مرتاحاً ويعلم جيداً كمية الأوراق التي يمتلكها في سياق الحرب المفتوحة عليه مالياً.
حتى الآن يلجأ حزب الله إلى الردّ السياسي على هذه العقوبات، بملفات متعددة، يمسك بها الرئيس نبيه بري، وخصوصاً ملف ترسيم الحدود والمفاوضات بشأنها. إذ ستكون للحزب اليد الطولى على الصعيد التفاوضي، وهو مجال مفتوح أمامه لتحسين شروطه. وعلى هذه القاعدة، أخذ برّي على عاتقه متابعة ملف العقوبات مع الأميركيين، إنطلاقاً من خلاصة يستعيد البعض فيها تجربة المفاوضات الأميركية الإيرانية أيام الرئيس باراك أوباما، كتجربة تتكرر الآن وفيما بعد، مهما اشتد الضغط الأميركي راهناً على إيران. هي مفاوضات ستأتي بعد الانتخابات الأميركية.
منير الربيع - المدن