يتخطى الهزال اللبناني كل التوقعات وينحدر يوماً بعد يوم إلى قيعان أعمق فأعمق. فمن سخريات حالنا أن يكون لبنان على استعداد للدخول في مفاوضات ترسيم الحدود مع الأراضي الفلسطينية المحتلة أو مع سوريا، بينما "شعوبه" غارقة فعلياً في نزاعات على ترسيم الحدود بين مناطقها ومضاربها الطائفية. هذا هو الحال ما بين الحدث والضاحية الجنوبية، أو في جرود لاسا والعاقورة.. وحديثاً النزاع بين بشرّي والضنية على "هوية" القرنة السوداء وملكيتها.
في هكذا مهازل، تحضر فيها كل أساليب الشحن والتحريض والتعصب، من رفع الصليب إلى رفع السيوف أو المصاحف والرايات الحزبية والدينية..
معارك متعددة
على نحو غامض، وُضع سكان منطقتين متجاورتين حفرة الخلاف، من دون أن يدريا أو يريدا ذلك. فجأة ظهر الخلاف بين "القوات اللبنانية" وجمهورها في بشري وجوارها من جهة، وأهالي الضنية، أي بين السنّة ومناصريهم من جهة ثانية. بينما الأمر برمته مجرد خلاف عقاري يمكن حله قضائياً أو حتى عبر تعاون وزاري وحكومي وبلدي. لم تكن "القوات" هي صاحبة المواجهة إنما تم تحميلها وزر ذلك. ولا السنّة كانوا ينظرون إلى مشروع بركة مياه وكأنها حرب وجود. على هذا النحو وجدت "القوات اللبنانية" نفسها محرجة وهي تشعر أن ثمة من يقارعها على أرضها وداخل "حصنها" الأهلي، لتضاف هذه المشكلة إلى "المعارك" السياسية العديدة المفتوحة بوجهها، وهي التي يُمنع عليها منذ بداية "العهد" أن تجد فرصة لالتقاط الانفاس. والأسوأ أنها بشكل أو بآخر، وبتحريض من هنا أو هناك، وجدت نفسها في مواجهة بيئة "حليفة". هذا الحال يستفيد منها كثر من خصوم "القوات" وأهل الضنية معاً.
مسيحياً، تجد القوات اللبنانية نفسها محرجة أمام جمهورها إذا لم تخض هذه المعركة بشراسة، في ظل "السعار الطائفي" الذي أصبح معمماً في البلاد. وسياسياً، تجد القوات نفسها محرجة في تعاملها مع أهل السنة بالضنية الذين تعتبرهم من حلفائها بغض النظر عن علاقتها بالأحزاب والتيارات السنية المختلفة.
لاسا - العاقورة
بعيداً عن هذا كله، تبدو حقيقة الخلاف وعوامل تضخيمه سياسية أولاً، وخارج إرادة أهل بشري والضنية. إذ لا يمكن فصل هذا الخلاف، عن شبيهه القائم والمستمر حول جرود لاسا والعاقورة. وهو ينطوي على مخطط للسيطرة على الطرقات والمعابر من سوريا إلى لبنان، كما هو الحال بالنسبة إلى الطرقات والمعابر بين سوريا والعراق. فالخلاف على جرود العاقورة ولاسا، يرتبط بوصل خط مباشر من البقاع إلى جرود جبيل إلى الساحل والأوتوستراد الذي يربط بيروت بالشمال، صحيح أن الوضع الجغرافي والسكاني في بشري والضنية ليس بسهولة الواقع في جبيل وجرودها، ولكن له مسبباته ودوافع التي تضعه على أجندة الاهتمام ذاته، سواء بتحقيق خروقات في هذه المناطق، أو في التأثير السياسي هناك. هذا المخطط يطال القمم الجبلية الأساسية ومعابرها التي تربط غرب لبنان بشرقه.
من العراق إلى الساحل اللبناني
ويتصل هذا بمشروع السيطرة بالجهة الساحلية الجنوبية للبنان، كحال الطريق التي تربط بيروت بالجنوب، من خلدة إلى المشاريع العقارية في الرميلة والدبية والناعمة. أي السيطرة على ساحل الشوف، ومن الشوف باتجاه البقاع. الأمر نفسه ينطبق على مناطق في الجنوب، وتحديداً التي تمثل صلة وصل بين الجنوب والجبل والبقاع، كمحيط منطقة جزين، بالقرب من جبل الريحان ومثلث كفرحونة الذي يصل الجنوب بالبقاع وبالجبل. وأكثر عمقاً باتجاه الجنوب، بين حاصبيا ومرجعون والخيام والعرقوب، وصولاً إلى دير العشاير، والطريق القديمة التي تربط لبنان بسوريا.
هذا الصراع الجغرافي السياسي - العسكري، هو من ضمن الصراع القائم في المنطقة كلها، ويرتبط بترسيم الحدود الجنوبية، أو بترسيم الحدود مع سوريا وضبط المعابر غير الشرعية وما يرتبط بها أمنياً ولوجيستياً، وصولاً إلى سيطرة حزب الله على أجزاء واسعة من الجهة السورية المقابلة للجهة اللبنانية.
منير الربيع - المدن