قبل أكثر من سنة، جرى ضبط توتر محدود بين حزب الله والشرطة العسكرية الروسية قرب الحدود السورية - اللبنانية. فالشرطة العسكرية الروسية طلبت من حزب الله الانسحاب من مناطق محددة في ريف دمشق، لكن الحزب لم ينسحب، فوقع اشتباك بين الطرفين. سُوّي الوضع واستعيد الهدوء، وانسحبت الشرطة الروسية. غير أن حزب الله بادر إلى الانسحاب في ما بعد، وسلّم تلك المنطقة للروس. حصل ذلك في إطار الصراع على مناطق النفوذ، ولا يزال مستمراً حتى اليوم.
صراع دولي على الحدود
عندما حدث التوتر كان الروس يسعون إلى التوسع في سوريا، للسيطرة على مواقع أساسية استراتيجية، تسيطر عليها إيران وحلفاؤها. كان الأمر على علاقة بحسابات الروس في سوريا، ومع الإسرائيليين والأميركيين. وفي الفترة نفسها، كان الأميركيون والإسرائيليون يشدّدون على وجوب توسيع نطاق عمل القرار 1701، وتكليف قوات دولية بضبط الحدود بين سوريا ولبنان، وعدم ترك حزب الله يسيطر على تلك المنطقة. هذا الصراع لا يزال على حاله حتى اليوم. والمواقف الأميركية والإسرائيلية واضحة في تشديدها على أن تتولى قوات دولية حفظ الأمن على حدود لبنان الجنوبية والشرقية. وهذا ما تستمر واشنطن وتل أبيب في بحثه مع الروس لتكريسه.
الروس وأمن سوريا والقصير
تشير التطورات الأخيرة في لبنان وسوريا إلى أنها مترابطة ومتداخلة: إستهداف إسرائيل حزب الله والإيرانيين في سوريا وفي الضاحية الجنوبية، تجديد العمل بقواعد الإشتباك والقرار 1701، وصولاً إلى لجوء حزب الله للردّ على الضربة الإسرائيلية من لبنان وليس من سوريا، بناءً على طلب روسي واضح بمنع حزب الله وإيران من الانطلاق من سوريا لتنفيذ عمليات ضد إسرائيل، أو تهدد أمنها.
هذا يعني أن الصراع بين إيران وذراعها اللبناني على مناطق النفوذ مستمر في سوريا. وموقف أمين عام حزب الله حسن نصر الله، لجهة تسهيل عودة اللاجئين السوريين إلى القصير، ليس ببعيد من هذه المسائل كلها، حين قال: أصبح بإمكان أهالي القصير أن يسجلوا أسماءهم للعودة إلى مدينتهم والقرى المحيطة بها، مشدداً على أن حزبه لا يريد إجراء تغيير ديمغرافي.
جملة من التطورات دفعت نصر الله إلى إطلاق هذا الموقف:
أولاً، هو قال إن تسهيل عودة اللاجئين إلى القصير، يلبي طلب القيادة السورية. هذا يشبه إلى حدّ بعيد مطالبة روسيا حزبَ نصرالله بعدم الاشتراك في معارك تدور في مناطق سورية محددة. والمطالبة الروسية هذه ترتبط بحسابات دولية: تخفيف حضور حزب الله على الجبهات السورية، وإظهار عدم تأثيره في المعادلة السورية. لذا يندرج موقف نصر الله حول القصير في إطار تلبية الرغبة الروسية المطلوبة دولياً.
التغيير الديموغرافي
ثانياً، بقراره "المتقدم" هذا، أراد حزب الله إيصال رسالة إلى الجميع بأنه لا يريد إحداث تغيير ديمغرافي في سوريا. والقوى الدولية تستند إلى هذه المسألة (التغيير الديموغرافي) للإشارة إلى سعي إيران إلى البقاء والاحتفاظ بنفوذها في سوريا، حتى في حال اضطرارها لاحقاً إلى إخراج جيشها منها، لتبقى مناطق سورية أساسية خاضعة لها ديمغرافياً وسياسياً وأمنياً، لتشكل صلة وصل بين لبنان وسوريا والعراق. لكن القصير أصبحت قاعدة عسكرية كبرى لحزب الله، ولا يمكنه التخلي عنها بسهولة. لا سيما أنها ليست وحدها من هُجِّر أهلها. فالمناطق المحيطة بها أصابها الاقتلاع والتهجير، وصولاً إلى القلمون. وصحيح أن بعضاً من اللاجئين عادوا إلى تلك المناطق، ولكن أعدادهم ضئيلة جداً، وجميعهم من "الملتزمين" بالهدوء وبالأمر الواقع. أما المهجرون إلى إدلب مثلاً، فلم يعودوا، ومن عاد مهم يلتزمون بالإنضباط تحت سيطرة حزب الله.
ثالثاً، قضية عودة اللاجئين أبعد بكثير من القصير، وهي ترتبط بمناطق ومدن أساسية، من حمص إلى دمشق ومحطيهما، حيث تغيرت معالم بعض الأحياء، ونوعية السكان، جرّاء عمليات التشيّع التي تحصل مقابل مساعدات مختلفة. وأعداد كبيرة من اللاجئين الذين أرادوا العودة من لبنان، سُلّمت أسماؤهم إلى النظام، فلم يوافق على إعادتهم، واقترح على آخرين العودة إلى مناطق غير مناطقهم الأصلية.
حزب الله والشييع
رابعاً، بإعلانه ذاك يريد حزب الله إطلاق موقف في اتجاه قوى متعددة، محلية وخارجية. موقف مفاده أنه يبذل جهوداً إيجابية لتوفير عودة اللاجئين، ليقول للقوى المعنية أنه شريك في الصراع في سوريا، وكذلك في الحل وإعادة اللاجئين. كأنه في هذا يريد إظهار موقف إيجابي من المكونات السورية كلها. لذا ركز على أن بعض القوى سعت إلى جعل الصراع مذهبي، سنّي - شيعي - علوي، مدعياً في موقفه الأخير أنه يطمئن السنّة ويحرص على إعادتهم إلى أراضيهم.
أجرى حزب الله منذ مدة عمليات إعادة تموضع وإنتشار في سوريا، حسبما تقتضي الحاجة وبسبب توقف المعارك في مناطق سورية كثيرة، ولتجنب المزيد من الضربات. وهو يريد الآن القول إنه مستعد لإعادة اللاجئين إلى هذه المناطق التي أجرى انسحابات موضعية منها في اتجاه مواقع أخرى. ففي بعض المناطق المحيطة بالقصير عاد بعض من الأهالي، لكنهم محسوبون على لون طائفي ومذهبي معين، أو شُيّع بعضهم في السنوات الأخيرة، مقابل بدلات مالية ومساعدات. وهناك جزء آخر من الذين عادوا، موالين للنظام، وعلموا في أجهزته الأمنية والعسكرية والمخابراتية.
ويعمل حزب الله منذ مدة، على تجنيد الموالين له في مناطق مختلفة من سوريا، ومن بيئات مذهبية غير شيعية، وأصبح لديه الكثير من المجندين السنّة الذين أصبحوا أرضاً خصبة لموالاة أي مشروع يحميهم أو يوفر لهم بعضاً من النفوذ والمال والخدمات، والحفاظ على وجودهم في حدّه الأدنى. هؤلاء لا يشكلون خطراً على حزب الله.
ويتقرب حزب الله من سكان المناطق الأصليين. في معلولا مثلاً يتقرب من المسيحيين، وفي مناطق أخرى تقرّب من الدروز، وحتى من السنّة الذين يقدم لهم مساعدات تقيهم من الجوع تقريباً. وحتى في بعض أحياء دمشق والغوطة، تقرّب من السكان السنة، فأصبح بعضهم موالين له مقابل الحصول على مساعدات مالية في ظل ظروفهم الخانقة. يريد حزب تكرار هذه المعادلة في القصير ومناطق أخرى قد تظهر تباعاً. ولكن بشرط ألا يؤدي ذلك إلى أي تغيير في موازين القوى السياسية والعسكرية، وأن يكون الأهالي العائدين طيّعين غير مقلقين. وهذا النوع من السلوك، قد يمنح حزب الله ورقة تفاوضية جديدة مع المجتمع الدولي، ومع السنّة أيضاً، إلى جانب الأوراق الأخرى: من ورقة الحدود الجنوبية في لبنان إلى الحدود الشرقية. وقد يسمح له ذلك بتشكيل جماعات موالية، تؤمن استمرار نفوذه ونفوذ إيران في هذه المناطق، وتحافظ على خط الإمداد الإستراتيجي، حتى وإن حصل انسحاب عسكري في ما بعد.
منير الربيع - المدن