ليس لدى الرئيس سعد الحريري أي مجال لخسارة العلاقة الجيدة بفرنسا. هو يعرف ذلك ويتصرّف بقناعة أن فرنسا هي الدولة الوحيدة التي تقف في هذه المرحلة بالذات إلى جانب لبنان، وتقدّم له كل أشكال الدعم، السياسي والمعنوي والاقتصادي، بشرط أن يلتزم لبنان بالفروض التي يتوجب عليه تطبيقها. تشكّل باريس المتنفس الوحيد للحريري سياسياً، وسط حمم الضغوط التي تأتي من كل حدب وصوب، وبالأخص من الولايات المتحدة الأميركية والمملكة العربية السعودية. صحيح أن واشنطن تبدي دعمها لاستقرار لبنان، لكنها لا تجاري الحريري في مطالبه بتخفيف حدّة العقوبات. والسعودية أيضاً تبدي دعمها للبنان، لكن بشرط استعادة التوازن السياسي المفقود، واتخاذ موقف واضح في مواجهة إيران وحزب الله.
ماكرون "المتفهّم"
فرنسا دعمها غير مشروط سياسياً، إنما تقنياً وأدائياً. وقد كررها ماكرون على مسامع الحريري. ما يرتاح إليه رئيس الحكومة، هو الموقف الفرنسي الواقعي الذي يتقاطع مع موقف لبنان من أزمة المنطقة. فباريس بإدارة ماكرون، تعرف أن المواجهة مع إيران لن تصل إلى أي نتيجة. والمواجهة مع حزب الله لن تؤدي إلى أي مكان. لذلك، فإن القنوات الفرنسية مفتوحة مع الطرفين. ويسعى ماكرون إلى النجاح في مساعيه لإطلاق حوار إيراني أميركي، كما نجح سابقاً في لبنان، بحماية التسوية مع الأخذ بواقع أن حزب الله هو الدعامة الأساسية فيها. هذا الجانب من الائتمان للتسوية، هو الذي يريده الحريري ويبحث عنه. فلا يجد ضالّته إلا في باريس. ولأنه يعلم أن واشنطن وطهران سيتوصلان بنهاية المطاف إلى اتفاق، فلا يريد أن يدفع ثمن الصراع اليوم، بما قد يكلّفه الكثير فيما بعد.
لعب ماكرون ويستمر دوراً استثنائياً في لبنان، منذ التسوية وإعادة تجديدها بعد أزمة "استقالة" الحريري من الرياض، إلى مؤتمر سيدر، وصولاً إلى استحقاقات الراهن. لكن أيضاً لفرنسا شروطها، التي لا تتنازل عنها، وتطالب اللبنانيين بها بجدية وإلحاح. وهذا كلام جاء على لسان ماكرون نفسه، في معرض تأكيد حرصه على العلاقة مع لبنان ومساعدته ودعمه، قائلاً: "في مثل هذه الظروف يعرف أين هم الأصدقاء. فرنسا هي صديقة لبنان، وأنتم تعرفون ذلك". بشرط أن يلتزم لبنان بتعهداته.
صراحة متناهية وملاحظات
وكما لبنان لا يريد خسارة فرنسا، فإن ماكرون لا يريد خسارة فعاليته اللبنانية، التي تشكل ساحتها نقطة تلاق وتواصل بين مختلف القوى المتعارضة في المنطقة، ومن الشرفة اللبنانية تكون باريس قادرة على الإطلالة على مختلف ملفات المنطقة، ربطاً بدورها في التنقيب عن النفط، ومساعدة لبنان وفق مندرجات مؤتمر سيدر، وربطاً بعلاقتها مع حزب الله، وسعيها إلى التقريب بين الأميركيين والإيرانيين. إذ كان لباريس دور لافت عند حصول التوترات في الجنوب بين حزب الله وإسرائيل، وهذه أشار إليها ماكرون بوضوح: "تدخلت شخصياً في هذا الوقت لدى مختلف الأطراف لتفادي التصعيد، بالتنسيق الوثيق مع الرئيس سعد الحريري".
اللقاء الإيجابي بين الحريري وماكرون، انطوى على صراحة متناهية في المباحثات التي أجراها الرجلان، ولذلك أعاد التأكيد على مسامع الحريري، للشروط الفرنسية، وللملاحظات التي سمعها اللبنانيون من المبعوث بيار دوكان، والتي كانت قاسية. لكن ماكرون أراد تلطيفها، مع الإصرار على التزام لبنان بفروضه، لأنه منذ انعقاد مؤتمر سيدر لم يتقدم لبنان أي خطوة إلى الأمام في مسيرة الإصلاحات. الموقف المتقدم الذيأاطلقه ماكرون، تضمن العديد من الإشارات، أولها ضرورة بناء عناصر الثقة، حول وقف الهدر والفساد، وإيجاد الحلول للكهرباء والإدارة.
تجهيز الجيش والالتباس
عناصر الثقة التي تصر عليها باريس، أعاد لبنان بناءها مجدداً، خصوصاً بعد الخطأ الذي وقع بخصوص قرض الأربعمئة مليون يورو المخصصة لتجهيز الجيش بطرادات بحرية، وقد حدث التباس حول حصول لبنان على هذا القرض مقابل شرائها من إيطاليا بدلاً من فرنسا، الأمر الذي أغضب الفرنسيين، فعاد الحريري وأوقف العمل بهذه الاتفاقية مع إيطاليا، وتم تصحيح الوضع مع فرنسا، التي أعلن ماكرون عن الموافقة على تقديمها للبنان.
وقال ماكرون:" إنها مسألة إعطاء لبنان الوسائل للقيام بالإصلاحات الطموحة لكي يستعيد وضعه الاقتصادي، بدعم شركائه الدوليين، وبثقة كاملة. وأنا سعيد لكوننا أقمنا اتفاقا مع الحكومة اللبنانية لإطلاقها بأسرع وقت ممكن. آمل أن يسمح ذلك لمجلس الوزراء ورئيسه أن يتقدما في المشاريع، ولا سيما في قطاع الكهرباء والبنى التحتية والإصلاح الإداري، لما فيه مصلحة مباشرة لكل اللبنانيين". ركز الرئيس الفرنسي على مبدأ الثقة، وإصلاح الكهرباء ووقف الهدر فيه، ليكون ذلك منطلقاً للبدء بالمشاريع.
لا ثقة واعتراض على أسماء
وهنا تؤكد المعلومات أن الفرنسيين غير راضين عن المسار المالي والاقتصادي والإداري و"الإصلاحي" في لبنان. كلام ماكرون لم يكن مختلفاً عن كلام بيار دوكان، وإن بطريقة ملطفة أكثر، ويركز المبدأ الفرنسي على أن لا ثقة مع لبنان، ولا ثقة بكل طريقة إدارة المشاريع والاستثمارات، وأكثر من ذلك، تكشف معلومات فرنسية، أن باريس غير موافقة على طريقة توزيع المشاريع وتقاسمها بين رجال أعمال محسوبين على قوى سياسية، وتشدد باريس على أن منطق الكوميسيونات، والمشاريع الربحية، لن تمرّ. وقد سمّى الفرنسيون أسماء بعض المقاولين، طالبين عدم دخولهم في مشاريع استثمارية. وكما في السياسة كذلك في الاقتصاد، فالشروط الاقتصادية قد تجد نفسها في ورقة يعمل حزب الله على إعدادها لموازنة الـ 2020، بما تتضمنه من بنود إصلاحية.
منير الربيع - المدن