قد يكون ما حدث يوم الثلاثاء، في المحكمة العسكرية، و"على الطريقة اللبنانية"، هو بداية لمرحلة إطفاء وهج "الهوبرة" الإعلامية التي أفرزها ملفّ العميل الإسرائيلي عامر الفاخوري.
هناك، أنهت قاضية التحقيق العسكري نجاة أبو شقرا، استجواب صاحب لقب "جزّار الخيام"، في دعوى الحق العام المقامة عليه من قبل النيابة العامة العسكرية، بجرائم التعامل مع العدو الاسرائيلي، والتسبّب في جرائم القتل والتعذيب والتنكيل باللبنانيين المعتقلين ودخول أراضي العدو من دون إذن. أصدرت أبو شقرا مذكرة توقيف بحقّه، قبل إحالة ملفه إلى مفوض الحكومة لدى المحكمة العسكرية القاضي بيتر جرمانوس لإبداء الرأي. غير أنّ هذا الجزّار، الذي لم يفهم اللبنانيون بعد آلية دخوله إلى أراضيهم في ظلّ صمتٍ سياسيّ وأمنيّ مطبقيّن، صرّح برغبته أن تحضر محامية أميركية للدفاع عنه في جلسات استجوابه، لكنّ ذلك تعذّر للاشتراط القانوي بالحصول على إذنٍ من نقيب المحامين في بيروت، فعرضت القاضية طلبه على مفوض الحكومة، على أن يحدد موعد استجوابه لاحقًا.
التدخل الأميركي
قد لا يعدو فضح دخول الفاخوري إلى لبنان بهذه الطريقة، كونه مجرد "تسريبة إعلامية" في صراع الأجهزة الأمنية بين بعضها البعض، مقابل عشرات حالات العملاء الذين يدخلون ويسرحون في البلد من دون أن يدري بهم أحد. وكلّ ما حصل جراء هذا الدخول، ومطالبة الفاخوري الصريحة بمحامٍ أميركي للمرافعة عنه، لم يشكل الحدّ الأدنى من الاستفزاز للدولة اللبنانية لدفعها إلى إصدار موقفٍ رسميٍ واضح من هذه القضية الحساسة، التي أشعلت غضب اللبنانيين، بمن فيهم مئات الأسرى المحررين وأهالي شهداء معتقل الخيام.
ما يبدو واضحًا، أنّ جميع القوى السياسية الرئيسية في البلد، كان تجاهلها الرسميّ لقضية دخول الفاخوري إلى لبنان، هو نوع من الاستسلام الصريح للاتفاق المعقود بين حزب الله والعونيين (التيار الوطني الحرّ). وهذا الاتفاق، الذي قد يشكل السبب الأبرز لصمت حزب الله قيادةً ونوابًا ومسؤولين عن إعطاء موقفٍ من فضيحة هذا "العميل"، واحتمال تورطّ حليفه "العونيّ" بتسوية وضع الفاخوري القانوني قبل دخوله إلى الأراضي اللبنانية، ليس إلّا انعكاسًا لحال بلد متدهور، يحكمه منطق المتاجرة بالقضايا، على حساب أهله.
خيبة من الدولة
شكلّ وصول وفدٍ من السفارة الأميركية إلى المحكمة العسكرية، ورغم عدم استطاعته الدخول إليها، خيبةً كبيرة في صفوف الأسرى المحررين وأهالي الشهداء. فـ"هاجسنا هو ما سيؤول إليه التدخل الأميركي في القضية"، يقول الأسير المحرر عفيف حمود لـ"المدن": "في العام 2000 رفعنا عددًا من القضايا، وصدرت أحكام بعضها غيابيًا. ومن بين هذه الدعاوى، كانت واحدة بحقّ العميل انطوان حايك، وكان عنصرًا في الدرك، وجلّادًا في معتقل الخيام، فصدر حكم بحقّه لسجنه 10 سنوات، ثمّ استأنفوا الحكم فخُفّض إلى عامين ونصف!"
هذه التجربة وغيرها الكثير، أفقدت الأسرى المحررين ثقتهم الكاملة بالدولة اللبنانية، باعتبارها لا تنصفهم، وأوصلتهم إلى قناعة بـ"أنّ المحاكمات في المحكمة العسكرية أصبحت شكلية وغير عادلة على الإطلاق". يضيف حمود: "بمنطق العدالة، العميل بكل دول العالم تُنزل بحقّه أشدّ العقوبات. إلا في لبنان، يسقط الحكم عنه". ويؤكد أنّ هناك خطّة كبيرة للتحرك بعد أن رفع تسعة أسرى محررين دعوى بحقّ الفاخوري. وترتكز الخطة على إعادة نبش كلّ ملفات العملاء الذين هربوا إلى فلسطين.
إلياس عقل هاشم وسليم جريصاتي
قانونيًا، تصل الأحكام الصادرة بحقّ العملاء من المؤبد إلى الإعدام، وهي ربما تسقط بمرور الزمن. لكن، هناك جرائم سارية المفعول، كالاستحصال على جنسية اسرائيلية، والتعامل مع العدو ما زال مستمرًا، والبقاء في تلّ أبيب لفترة طويلة، ما يعني أن هناك استمرارًا للحكم لم يسقط بعد.
يتذكر محامي الموقوفين الإسلاميين محمد صبلوح تاريخ 23 آذار 2017، أيّ قبل عامين، حين كان في المحكمة العسكرية، ووجد أمرًا غريبًا يحصل في وقت إضراب المحامين عن العمل. حينها، كان الوقت متزامنًا مع وصول إلياس هاشم، ابن العميل عقل هاشم إلى بيروت عبر المطار. بعد أن كان إلياس هاشم مقيمًا في اسرائيل، "انتقل إلى ألمانيا، ومنها إلى مطار بيروت، ومن المطار مباشرة إلى المحكمة العسكرية التي حاكمته في اليوم نفسه في غضون أربع ساعات. ورغم أنّ نقابة المحامين كانت مضربة، حضر محاميه بعد أخذ الإذن من النقابة، وحكمته المحكمة سنة واحدة فقط مع وقف التنفيذ ثمّ خرج العميل بطلًا متجهًا نحو ألمانيا مجددًا"، يقول صبلوح لـ"المدن": "تدخل حينها وزير العدل سليم جريصاتي مباشرة، وطلب تغطيته من محامٍ خرق الإضراب. ومنذ ذلك الوقت، يدخل العملاء إلى لبنان ويتمّ تهزيبهم بأفظع الطرق وأبخس الأحكام".
السيرة المخزية للعمالة والعملاء في لبنان، وما يتبعها من تواطؤ رسميّ مباشر وغير مباشر للدولة وأجهزتها، في بلد يتباهى بثلاثية "شعب، جيش، مقاومة"، يدفع للسؤال عن مصير ملف الفاخوري، الذي لن تكون نتائجه أفضل حالاً من نتائج ملفات زملائه العملاء.
لا محامية أميركية
لكن، هل تستطيع المحامية الأميركية أن تدافع عن الفاخوري؟ قانونيًا، يشير محامي الأسرى المحررين معن أسعد، في حديث لـ "المدن"، أنّه في حال وجود محامٍ أجنبي من دولة أخرى، "وقّعت اتفاقية مع لبنان على المعاملة بالمثل، فعندها يستطيع المحامي حسب النصّ أن يستحصل على إذن من نقابة المحامين في بيروت". وبناءً عليه، "يُسمح له الحضور في المحكمة، شرط أن يكون إلى جانب محامٍ لبناني. والقانون الأميركي الأنغلوفوني، يختلف عن القانون اللبناني الفرنكوفوني، ما يعني أن أصول المحاكمات والإجراءات مختلفة كليًا". لكن الأهم، وأيًّا تكن جنسية المتهم الفاخوري، "لا يزال يملك جنسية لبنانية ولو على الورقة والقلم". والجرم المُدعى فيه، "وقع على الأراضي اللبنانية. ما يعني، واستنادًا إلى المادتين 15 و32 من قانون العقوبات، لا يمكن محاكمته إلا في لبنان، ولا يمكن تسليمه إلى دولة أجنبية، تحت طائلة الانتقاص والاعتداء على سيادته الوطنية". وعليه، يعتبر الأسعد أنّ ما قام به الفاخوري، لجهة طلب استجوابه بحضور محامية أميركية، هدفه الأول والأخير التهويل المعنوي على لبنان.
ويشير الأسعد أنّه بعد مذكرة التوقيف الصادرة بحقه من المحكمة العسكرية، يحتاج الفاخوري حكمًا ولزامًا إلى "إخلاء سبيل"، لكن من المستحيل إخلاء سبيله من دون تقديم طلب لهذه الغاية. إذ "لا يمكن أن يتحقق ذلك، إلا استنادًا إلى ما يسمى استجوابه. وإذا كان الفاخوري يصرّ أن لا يجري استجوابه من دون حضور محامٍ أميركي، معناها أنّ هذا الاستجواب لن يحصل وتحتاج تسويته القانونية وقتًا طويلًا، لا سيما أنّ السلطات الأميركية لا يحق لها المطالبة بالحصول عليه، بوصفه لبنانيًا ارتكب جرمًا على أرض لبنانية".
معركة سياسية
يعتبر الأسعد أنّ هناك معركة في السياسة، وأنّ هناك من يسعى لتصنيف العملاء بين جيد وسيء تحت مسمى "المبعدين قسرًا". حتّى الآن، جرى توكيل الأسعد من قبل تسعة أسرى محررين، وحصل الثلاثاء على وكالة عن الشهداء، على أن يستكمل وكالة باقي الأسرى المحررين لإنجاز ملفٍ كبيرٍ لهم. يضيف الأسعد: "حكم التعامل مع العدو الإسرائيلي قد يسقط بمرور الزمن. أمّا باقي جرائم العمالة، فهي مستمرة ومتمادية، ويحقّ لنا المضي في رفع الدعاوى فيها، لا سيما بحقّ من يحملون الجنسية الاسرائيلية، ولم ينقطع تواصلهم مع العدو وأجهزة استخباراته للتآمرعلى البلد والمساهمة في كشفه أمنيًا".
جنى الدهيبي - المدن