من الصعب إنكار حسن تصرف حزب الله في العام 2000 لحظة انسحاب الجيش الإسرائيلي من قرى وبلدات الشريط الحدودي، وانهيار ما كان يسمى "جيش لبنان الجنوبي". في ذاك اليوم، دخلنا كصحافيين إلى بلدات رميش ودبل وعين إبل والقوزح المسيحية، استطلاعاً لأحوال السكان ورد فعلهم إزاء الحدث الكبير، طالما أن القرى والبلدات الشيعية كانت في أوج مظاهر الاحتفال بالتحرير.
يوم القرى المسيحية العصيب
ذاكرة الحروب الطائفية ومجازرها لعبت دورها في بثّ الفزع في صدور السكان المسيحيين، فاندفعوا بالآلاف هرباً نحو إسرائيل خوفاً من أعمال ثأرية مفترضة يقوم بها حزب الله ومناصروه. بالطبع، كان هناك أيضاً من خدموا في الميليشيات العميلة لإسرائيل، من الشيعة والسنّة والدروز والمسيحيين، وقد هربوا على عجل نحو الحدود تجنباً للقصاص الذي ينتظرهم.
كانت رميش خالية تقريباً يوم الانسحاب.. بل حتى أن معظم البيوت كانت مفتوحة الأبواب، وطناجر الطعام لا تزال ساخنة في ذاك النهار "العصيب". وما حدث تالياً كان مفاجأة غير متوقعة تقريباً. لم يحدث أي شيء. لا عمليات نهب أو اقتحام للقرى، ولا أي صدام أو حادثة ثأر، ولا غوغاء أو فوضى. كان شبان "حزب الله" غير المسلحين إلا بأجهزة اتصال، ينتشرون بأعداد محدودة عند مداخل تلك القرى، منعاً لارتكاب أي تعدٍ. الانضباط الشديد لعملية الانتشار هذه، فرضت عدم إخلال بالأمن.
الحرص الشديد الذي أبداه حزب الله بالتعاون مع الأجهزة الأمنية الرسمية، منع تلطيخ "فرحة التحرير" بأي عمل ثأري. لم يكن ذلك لطمأنة المسيحيين (الدروز والسنّة أيضاً) فحسب، بل للحفاظ على تماسك الجماعة الشيعية أولاً. فالسيرة المسكوت عنها لجيش العملاء، أنه طوال 25 عاماً من "العلاقة" التي جمعت بين إسرائيل وسكان الجنوب، إنما ابتدأت من نقمة جنوبية متعاظمة ضد السلاح الفلسطيني واليساري اللبناني المتفلت، وأيضاً من حاجة بلدات مسيحية منحازة لـ"الجبهة اللبنانية" أثناء حرب السنتين، إلى دعم بالسلاح في المعارك التي اندلعت حينها، خصوصاً في مناطق مرجعيون والقليعة، بل وخصوصاً بعد اقتحام بلدة العيشية وتهجير سكانها المسيحيين. فيما الجيش اللبناني الحاضر هناك (بجنوده من الطوائف المختلفة) وجد نفسه يحارب ميليشيات "الحركة الوطنية" ومنظمة التحرير الفلسطينية، وكان بحاجة للمدد الذي لا تستطيع قيادة الجيش تأمينه، بسبب الانقطاع الجغرافي. وبمسوغ أو ذريعة "عدو عدوي صديقي"، كان التوجه للاستعانة بإسرائيل التي بدأت، في الوقت نفسه، تواصلها مع "الجبهة اللبنانية"، ومدها بالسلاح. كانت إسرائيل تسعى إلى تقويض الجسم العسكري الفلسطيني وسلبه القدرة على شن عملياته الفدائية داخل الأراضي المحتلة، فوجدت في الحرب الأهلية (والفلسطينية - اللبنانية) فرصة ذهبية للتدخل والقضاء على أعدائها.
الجدار الطيب والتجنيد الإجباري
هكذا، من نواةٍ قوامها قطعات من الجيش اللبناني وبعض مسلحي الأحزاب المسيحية وأهالي القرى الشيعية الناقمين على الفدائيين وحلفائهم، بدأت إسرائيل في تشكيل وإدارة ما سيسمى "جيش لبنان الجنوبي". وبعد الاجتياح الأول في آذار 1978، استطاعت إسرائيل رسم حيز جغرافي متماسك تحت سيطرتها ليكون "الشريط الحدودي" الذي يشكل حاجزاً أمنياً يمنع تسلل الفلسطينيين إلى الأراضي المحتلة، كما يبعد المدفعية الفلسطينية عن المدى الذي تطال به المستوطنات الحدودية.
على هذا النحو نشأ كانتون قسري فصل هذا الشريط الحدودي عن لبنان فصلاً شبه تام، واستتب الأمر لإسرائيل و"جيش لبنان الجنوبي" فيه. وبين ما كان يسمى "الجدار الطيب" الذي أمن شروطاً اقتصادية لأهالي القرى والبلدات الفقيرة أصلاً والمحرومة تاريخياً، وبين نظام الخدمة الإجبارية الذي جنّد شبان المنطقة في جيش العملاء، بات الشريط الحدودي مرتبطاً بإسرائيل تماماً.
حتى العام 2000، كانت النسبة الأكبر من عناصر جيش العملاء (جيش لحد) هم من الشيعة بحكم الجغرافيا السكانية للشريط المحتل. كما أن أبرز الرموز المكروهة لحماستها في خدمة إسرائيل أمنياً واستخبارياً وعسكرياً، هم من الطوائف كلها من دون استثناء.
العقوبات الرمزية
لهذه الأسباب جميعها، كان تخوف حزب الله من انفلات غريزة الثأر أو البطش والانتقام في الأيام الأولى للتحرير، لما يعني ذلك من إسالة دماء غزيرة في كل قرية، خصوصاً في البلدات الشيعية، على نحو لا يمكن الشفاء من تبعاته أو تجاوز ضغائنه بما يصدّع الجماعة الشيعية ويصيبها بجروح غائرة ستبقى فاغرة زمناً طويلاً. كذلك، كان السلم الأهلي الهش بين الطوائف اللبنانية لا يحتمل أي واقعة بين حزب الله الشيعي ومناصريه من جهة، وأهل البلدات المسيحية أو الدرزية أو السنّية من جهة ثانية، بما قد يفتح مجدداً كوابيس الحروب والكراهيات والانقسامات اللبنانية.
على هذا، كان تواطؤ حزب الله والدولة اللبنانية على إنزال عقوبات رمزية بحق العملاء السابقين، إضافة إلى استيعاب حزب الله نفسه طوال سنوات انشقاق العملاء والتحاقهم به تائبين. وهذه سياسة شجعت الكثيرين على الهروب من الشريط الحدودي أو على "التعاون" مع المقاومة سراً، ما عجّل بتحول معظم الشيعة في الشريط الحدودي طوال التسعينات للانحياز إلى المقاومة وحزب الله وحركة أمل، خصوصاً وأن "الثنائي الشيعي" بات بعد اتفاق الطائف ركيزة أساسية ومتفوقة في هذا الـ"لبنان الجديد" الذي بات ينعم بالسلم الأهلي.
غياب الثأر أو البطش والأحكام القضائية المخففة منح سريعاً الطمأنينة للذين هربوا تحت وقع صدمة الانسحاب الإسرائيلي وانهيار جيش لحد، فعاد القسم الأعظم منهم خلال شهور قليلة. وبقيت أقلية صغيرة جداً من هؤلاء، اختاروا البقاء في إسرائيل أو الهجرة الدائمة إلى بلدان أخرى منقطعين عن هويتهم اللبنانية وعن بلدهم انقطاعاً نهائياً. وبعضهم ما زال وعيه قابعاً في زمن السبعينات، ومنهم من يحمل وزر ارتكابات لا يمكن محوها، ومنهم ما زال "الخوف" متحكماً بمصيرهم.
"تخصيص" العمالة
معضلة "العمالة" التي أعادت قضية عامر الياس الفاخوري فتح السجال فيها، لا تتصل بأي شك في كونه خائناً من الطراز الشنيع، ولدوره كجلّاد في معتقل الخيام المشؤوم، إنما تتصل في "تخصيص" صفة العمالة لمن تعاون مع إسرائيل حصراً. وهذا ما ليس متفقاً عليه لا وطنياً ولا طائفياً. ويعيد فتح سجال اصطفافات الحرب وسردياتها، خصوصاً إزاء ما اقترفه النظام السوري وإجرامه وفظائعه وأدواره هو وعملاؤه (وحلفاؤه) بحق اللبنانيين، بما لا تشفع معه "عروبته" للتخفيف من مشاعر العداء له، مقارنة بالصهيونية.
يوسف بزي - المدن