يزداد الحصار إحكاماً على سمير جعجع. يُراد له ألا يخرج من معراب. خبير المعارك والأزمات، يتورّط أكثر فأكثر في إدارة التفاصيل السياسية التي تنطوي على تسويات. لا يتقدم ولا يتراجع، كمن رُبطت قدماه بحبل.
في الدوامة أو المتاهة
مسيحياً، لا يبدو قادراً على الخروج عن مجاراة خطاب التيار الوطني الحرّ، وإن كان مقتنعاً بغير ذلك، ويحاول تصويب المواقف. في السلطة لا يريد الخروج عن منطق التسوية، فيخسر ما يظنّها جنّتها. وهي جنّة خالية من أي مقومات، فتجعله كالمستجير من الرمضاء بالنار. يتحفّظ على الموازنة، ويصوت معها في مجلس الوزراء، ومن ثمّ يعارضها في مجلس النواب. يذهب إلى الاجتماع المالي الاقتصادي في بعبدا، يوافق على النقاش، ويتحفظ على البيان، أو العكس.
يعكس وضع جعجع هذا تخبطاً قواتياً، أو حيرة سياسية، على عكس الصورة الأكيدة عن قوة التنظيم القواتي. يفقد الكثير من قدرته على التأثير، على نحو مناقض لموقعه وللأدوار القادر على القيام بها. بعد كل "الطعنات" التي تلقاها، يحتاج جعجع إلى كرسي اعتراف. خلوة مع ذاته للقيام بحساب الربح والخسارة، والاعتراف بأن الخيار الذي اتخذه منذ سنوات قد أثبت فشله. بمعزل عن كل حساباته واعتقاده باستعادته شرعيةٍ مسيحية، أو بظنه أنه عزز شرعيته المسيحية بعد سنوات من شيطنته، إلا أن شيطنته تجددت، ليس شعبياً فقط، بل سياسياً هذه المرة، بعد التحالف الوثيق بين الوزير جبران باسيل والرئيس سعد الحريري.
مناصب بلا مكاسب
يجد سمير جعجع نفسه محاصراً. لا تُترك له غير طريق واحدة: دفعه إلى الخروج من الحكومة، واكتمال حصاره وعزله. لكنّه يصرّ على البقاء على قاعدة المعارضة من الداخل، وللقول إنه لم يلبّ طموحاتهم. لكن بقاءه يكلّفه الكثير: التناقض والضياع السياسي، أو ليتهم بأنه يعرقل العهد.
هو ينطلق من حسابات انتخابية بحتة، أولها إثبات وجود القوات في السلطة، وثانيها الرهان على ارتفاع عدد نواب كتلتها في الانتخابات المقبلة. فتكون حاله كحال من يسكر بتعداد المناصب وتكثيرها، لكن بلا مكاسب.
وضع جعجع نفسه حالياً في منزلة تعطيه سيئات الموالاة وسيئات المعارضة. تورط رئيس القوات بخدعة حصوله على 15 نائباً في الانتخابات، فظنّ أنهم سيفتحون له أبواب المجد، متناسياً أن العبرة في السياسة ليست بمقاعد أو مناصب. عندما كان للقوات 8 نواب كانت فاعليته السياسية أكبر وأقوى. حصل على 15 نائباً، لكنه وقع في حصار مطبق، وفقد قدرته على الإقدام أو التراجع. في الموالاة غير قادر على فعل شيء، ولا على تحصيل ما يحصّله الآخرون. والمعارضة الداخلية التي يمارسها، تظهره خارج "الطغمة". كان السبّاق في دعم الجميع: من الحريري إلى عون إلى وليد جنبلاط، لكنه يجد نفسه وحيداً الآن. خاض معاركه ومعارك الآخرين، ولا يجد أحداً يساعده على خوض معركته. خصمه اللدود يدرك كيف يطبق عليه الحصار ويخنقه، وحليفه المفترض (الحريري) حساباته مختلفة. أما وليد جنبلاط فحساباته تنحصر في كيفية تمرير السنوات الثلاث المتبقية من العهد بأقل الخسائر الممكنة.
مواجهة الجميع
وبما أن لا أحد من حلفاء جعجع القدامى يريد المواجهة، تُركت له وحده، وأصبحت لزاماً عليه وملزماً بها. في المعارضة هو قادر على التعبير عن وجدان جمهور حليفيه الافتراضيين. وهذا يفترض خروجه من "أسر الطموح الرئاسي حالياً"، وانتفاضه على الموقع الذي يُراد حشره فيه: المواجهة مع باسيل، بينما لديه خيار واحد وأعظم: المواجهة مع الجميع، مع التسوية الرئاسية بالذات، وهو لم يعد مقتنعاً بها، وقد باتت تستخدم لتطويقه.
منذ التسوية الرئاسية حاول أن تكون رسائله إيجابية عديدة. أحجم عن مواقف مرتفعة السقف، ولم يعارض كثيراً في البداية. لكنه لم يحصل على ما يريد، أو على الأقل على ما يحصل عليه آخرون من "دلال" حزب الله مثلاً. دلال يحظى به الحريري لحظة زعله، ويناله جنبلاط بعد شبه انتفاضة، ويحوزه سليمان فرنجية عند انزعاجه. حزب الله يكتفي بحليفه الاستراتيجي الذي يمنحه كل ما يريد، وجعجع لا يلبّي ذلك، ولا أمل من الرهان على أي تقارب بينه وبين حزب الله. إذا حاول سيقف في الصف الأخير من صفوف الطارقين على باب حارة حريك.
الثمن الباهظ
كان من الأفضل لجعجع أن يبقى في خطّ المعارضة، طالما أنه لا يستطيع فرض ما يريده داخل بنية السلطة، لأن المعارضة من الداخل ثمنها باهظ، وعليه أن يتحمّله. أن يكون قائد جبهة المعارضة، أفضل له بكثير من تصويره طامحٍ سلطوي همّه جمع المكاسب، وهو بالتأكيد خارج هذا التصنيف.
من خارج السلطة، قادر أن يقود معارضة فاعلة في البرلمان، ويتحول إلى قطب سياسي وشعبي، يرتكز في خطابه على محاكاة هموم الناس وآمالهم، بعيداً عن طموحات السلطة التي تُغرق أصحابها في التفاصيل. لا يمكن لسمير جعجع أن يستمر على حال الضياع هذه، ولن يكون وحده من يدفع الثمن. ومن يلتقي معه على طروحاته ليست شرائح مسيحية فقط..
آن لجعجع أن ينظر إلى ما يتخطى حدود كفرشيما والمدفون، ويتجاوز غرقه في حسابات ضيقة يُستدرج إليها.
منير الربيع - المدن